حسن مدبولي يكتب : المتمرد شفيع شلبي والمولد النبوي


بمناسبة المولد النبوي الشريف، عدت بالذاكرة إلى سهرة تليفزيونية نادرة أعادت بثها قناة ماسبيرو زمان عن الموالد الشعبية ومولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. كان البرنامج من إعداد وتقديم الإعلامي العبقري شفيع شلبي، وإخراج عفاف طبالة.

في تلك السهرة، رسم شفيع مع ضيوفه لوحة صادقة لواقع الموالد: بطقوسها الدينية، وتفاعلاتها  الشعبية، ومظاهرها العجيبة. لم يكتفِ بالسرد، بل أضفى إيقاعًا فنيًا على العمل، فأقحم مشاهد من “الليلة الكبيرة” مع مشاهد من قلب  الاحتفالات والسرادقات والمساجد الكبرى ، وختم بلقاء مع صلاح جاهين، الذي تحدث عن المولد وعن واجب المبدعين في التفاعل مع تراث الشعب، لا في ترسيخ التفاهة والعري.

عبقرية متمردة وظلم قاسٍ

كان شفيع شلبي حالة إعلامية فريدة سبقت عصرها مذيعًا مختلفًا، مخرجًا بارعًا، ومنتجًا سينمائيًا وتليفزيونيًا مبدعًا، لكنه للأسف دفع ثمن استقلاله وتمرده، فقد حُوصِر مبكرًا، وتم تهميشه لحساب "النكرات" التي صُنعت لتملأ الشاشات.

بينما كان زملاؤه يظهرون في البدل الكاملة والشعر المصقول أو البواريك، كان يطل بملابس كاجوال وشعر مجعد، وبساطة جعلت الناس يرونه واحدًا منهم. رفض أن يكون مجرد قارئ جامد للنشرة، فأضاف تعليقاته وتحليلاته—الأمر الذي لم يكن مسموحًا به—وتعرض بسببه للإيقاف أكثر من مرة.


برامج سبقت زمانها

منذ دخوله التلفزيون عام 1971، أثبت شفيع شلبي أن لديه رؤية مغايرة. أطلق برنامج السهرة الكبرى فواجه الوزير  يوسف السباعي بأسئلة محرجة فأُوقِف البرنامج. 

ثم ابتكر برنامج فلاش لقراءة الصحف، فاختار مقالات تنتقد الحكومة فأُوقِف مجددًا. ثم جاء برنامجه الأشهر من قلب الشارع المصري، حيث أعطى الكاميرا صوت الفقراء والبسطاء، وانتقد قرارات جمهورية على شاشة التليفزيون الرسمي—في سابقة لم يحتملها النظام.

من التليفزيون إلى الوثائقي

وبقرار جمهوري عام 1981، أُقصي شفيع شلبي نهائيًا من التليفزيون. لكنه رفض الهجرة أو بيع موهبته، فأسس المركز العربي للإنتاج الوثائقي، وأنتج سلاسل رائدة مثل أعلام معاصرون ورائدات من القرن العشرين. كان يؤمن أن من لا يعرف تاريخه يهدر عقله، وأن حفظ الذاكرة شرط لصناعة المستقبل.

أحلام سبقت الواقع

طرح فكرة إنشاء قنوات وإذاعات شعبية يملكها الناس بالاكتتاب، لتتحرر من هيمنة الحكومات، وهي فكرة بدت غريبة حينها لكنها تحققت مع ثورة الإنترنت واليوتيوب. كتب وأخرج وأنتج، وشارك في أعمال سينمائية متميزة مثل العوامة 70 وخلف أسوار الجامعة. كما انتُخب لعضوية نقابة المهن السينمائية، واتحاد السينمائيين التسجيليين، وجماعة الفنانين والكتاب.

المثقف المناضل

لم يكن شفيع شلبي إعلاميًا فحسب، بل كان مثقفًا مناضلًا. شارك في جهود التوافق الوطني عام 1995، وساند ثورة يناير منذ يومها الأول. رفض الانحناء لإغراءات السلطة أو الدخول في "حظيرة" فاروق حسني، وظل قابضًا على جمر المبدأ، يعيش حياة الكفاف منحازًا إلى الناس وتراثهم وحقهم في الحرية والعدالة.

الرحيل الكريم

على مدى أربعين عامًا، حُرِم من شاشات الإعلام الرسمي والخاص، ولم يُسمح له إلا بظهور باهت بعد ثورة يناير. ومع ذلك، لم يفقد إيمانه برسالته، ولا انحنى أمام القمع والتهميش. رحل في 12 يناير 2021، ثابتًا على مواقفه، راضيًا مرضيًا، تاركًا إرثًا سيظل علامة فارقة في تاريخ الإعلام المصري.

كل التحية والسلام لروح المتمرد العبقري شفيع شلبي، الذي عاش بكرامة، وصنع إعلامًا صادقًا، وربط الإبداع بتراث الشعب وهمومه

تعليقات