في عدد أخبار اليوم الصادر يوم السبت 12 ديسمبر 1987 كتب إبراهيم سعدة رئيس التحرير مقالا يتسأل فيه هل كان عبدالناصر صنيعة إعلام هيكل ؟ ولم يكن هذا الإدعاءبجديد فقد سبقه الى ذلك أنيس منصور عندما قال : ( بأن عبدالناصر صناعة هيكلية !! ) ، وقد ردد ذلك البعض سواء من الصحفيين او السياسيين خاصة من خصوم الزعيم والأستاذ ، حتى أن حسني مبارك قال بذلك أيضا عندما ألتقى بهيكل عقب الأفراج عنه مما أغضبه فرد عليه كما يذكر الأستاذ : يا سيادة الرئيس أن هذا الكرسي الذي تجلس عليه أوجده الرئيس جمال عبدالناصر فلا تصدق ما يقوله هؤلاء .
بل وصل الأمر بإبراهيم سعدة أن كتب سلسلة من المقالات يطالب فيها بمحاكمة هيكل وفق اتهامات السادات له بالعمالة. وكتب بالنص: أن هيكل تعود الكذب والضحك على الذقون. فالكاذب يمكنه أن يكذب مرة أو عشر مرات ثم يفتضح أمره بعدها ، أما هيكل فإنه من النبوغ لدرجة أنه يكذب وينصب ويضلل ويزيف آلاف المرات ثم يسارع ويغير جلده بسرعه !!
.فتساؤلات إبراهيم سعدة بشأن الأستاذ هيكل كثيرة فقد سبق وأن كتب متشككا ومتهجما
، هل كان هيكل مستشار السوء ؟ عندما نشر فى أخبار اليوم ( 30 إبريل 1982 ) مقالا بعنوان (مستشار السوء) ، مرددا فيه أكاذيب الجاسوس مصطفى أمين بأنهم قد لفقوا له قضية التجسس وأن هيكل كان وراء تلفيق تلك القضية ضده ، و إنه هو المسئول عن البطش بالصحفيين، لأن هيكل. كان يريد أن يصبح الصحفى الأوحد فى مصر، ولم يكن يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا تخلص من جميع الصحفيين المنافسين !!
.وإبراهيم سعدة كما هو معلوم كان ضمن كتيبة أخبار اليوم في الحملات الساداتية في تغييب وعى المصريين والتي كان يقودها جاسوس ، وكان الهدف ليس فقط تشوية ثورة يوليو وقائدها ولكن الطعن في مصداقية هيكل لأنه كان شاهدا وصانعا ومشاركا في أحداث تلك الفترة من 1952 الى خروجة من الاهرام في بداية 1974 ،
الغريب في الأمر إنه بعد أقل من أربع سنوات من مقال (مستشار السوء) ذهب إبراهيم سعدة مع مجلس تحرير أخبار اليوم في ( يناير 1986 ) إلى الأستاذ هيكل وأجـروا معه حديثـا مطولا نشر على ثلاث حلقات، والأغرب أنهم نشروا فى الحلقة الثالثة صورة من كتاب ( السياسة والعسكريون فى إسرائيل 1977- 1976 ، ص 112 ، تأليف : أموس برلموتر ) الذى يعتبر أشهر مفكر استراتيجى في إسرائيل قال فيه بالحرف الواحد : ( هيكل برفضه قبول دور التابع الذى أراده كيسنجر له فصل من منصبه كرئيس لتحرير الأهرام ) ،
الأكثر غرابة أنهم طلبوا من الأستاذ هيكل العودة لكتابة مقاله (بصراحة) فى أخبار اليوم، وفعلا ظهر أول مقال على الصفحة الأولى من أخبار اليوم في ( 15 فبراير 1986 ) بنفس الشكل الذى كان ينشر به المقال فى الأهرام على عمودين فى الصفحة الأولى مع صورة هيكل وبعنوان (بصراحة) يكتبها محمد حسنين هيكل وكان عنوان المقال: صنع القرار السياسى فى مصر .
.نعود إلى رد الأستاذ هيكل على إبراهيم سعدة (هل كان عبدالناصر صنيعة إعلام هيكل ؟
الذي صاغه الأستاذ في شكل رسالة لرئيس تحرير أخبار اليوم ونشر في 19 ديسمبر 1987 ، وقد كتب هيكل قائلا : أعود بك فى هذه السطور إلى مقالك الأخير الذى نشر فى عدد أخبار اليوم الصادر في يوم السبت 12 ديسمبر 1987 ، وربما كان من الضرورى أن أحدد ما أعنيه بالتاريخ ومؤداه أن التاريخ ليس الماضى وإنما هو ثلاثية الزمان: الأزل، واللحظة الراهنة، وإلى الأبد - أى الماضى والحاضر والمستقبل لا انفصال بينها جميعاً بطبيعة الحياة وباستمرار الحياة.
لذا أريد أن أناقشك فى تعبير ورد فى مقالك جاء فيه ما معناه:
"إننى أظهرت الراحل عبد الناصر إعلامياً أمام العالم".
لا أخفى عليك أن التعبير استوقفنى وأثار دهشتى. لذا اسمح لى أن أعرض عليك النقط التالية:
1- إننى أحب أن أتصور أنه كان لى دور بجانب جمال عبد الناصر، وبالتأكيد فقد تشرفت بصداقته، وبالعمل قريباً منه - لكننى مع ذلك واحد من الذين يدققون - ربما أكثر من اللازم - فى تحديد الخطوط، وأشعر دائماً أن الخلط هو الخطر الأكبر على العقل والفهم والتصرف جميعاً.
كان لى دور بجانب جمال عبد الناصر؟ - أتمنى أن تكون الإجابة : نعم.
إن دورى كان "إظهار" جمال عبد الناصر للعالم؟ - أثق أن الإجابة : لا.
.2- إذا سألتنى "لماذا؟ - فسوف أقول لك لأن التاريخ تصنعه الأمم، والأمم تعبر عن نفسها أحياناً ب رجل_تاريخى تستطيع طاقته أن تتحمل آمال أمته فى لحظة بعينها، وحين يحدث ذلك وقد حدث كثيراً عبر العصور، فإن ما يظهر أمام العالم هو "الفعل_التاريخى" ذاته وليس أى كلام يقال عنه مهما كانت مصداقيته.
أرجوك أن تراجع جمال عبد الناصر "كفعل تاريخى" وتتأمل معى دارساً ومستوعباً قيادته لثورة 23 يوليو، وقد كانت نقطة تحول فى منطقة بأسرها، بل وفى قارات بأكملها على اتساع الدنيا - ثم دعنا نطرح السؤال الذى يترتب مباشرة على تعبيرك الذى نناقشه:
"ما الذى "أظهر" جمال عبد الناصر للعالم؟".
لا أظننا نختلف على الجواب، أظهره الفعل التاريخى، وليس غيره، حركة التغيير فى المجتمع المصرى - حركة التغيير على نطاق الأمة العربية - حركة التغيير فى موازين القوى الإقليمية والدولية، مشروع بعث حضارى كامل على المستوى الوطنى والقومى، أمامنا معالمه وفى ذاكرتنا معاركه، وفى حياتنا حتى هذه اللحظة جذوره ضاربة فى أعماق الأرض لم يستطع أحد رغم جهد مستميت أن يقتلعها.
وأترك لك أن تحكم: ما الذى "ظهر" للعالم؟ أهو الفعل التاريخى؟ أم القول حتى وإن كان صادقاً؟
.3- أظنك تعرف - وقد تحدثنا فى ذلك كثيراً - إننى لست من أنصار عبادة الفرد، وأنت بالتأكيد تذكر مقالاً لى أثار ضجة ظهر يوم الأربعين بعد رحيل جمال عبد الناصر عنوانه "عبد الناصر ليس أسطورة" حذرت فيه مبكراً من تحويل "إرادة فعل تاريخى" إلى صنم مقدس لا يمس.
فى هذا المقال طالبت بتحويل "الرجل" إلى تجربة حية نعيش معها فى حالة حوار ولا نتوقف أمامها فى حالة انهيار.
ما زال ذلك اعتقادى لم يتغير.
مبكراً قلت فى تقييم مختصر لتجربة عبد الناصر: "إنه رجل استطاع أن يضع وطنه - مصر - فى مكانها الطبيعى وسط أمتها العربية، ثم استطاع أن يضع أمته العربية - بما فيها مصر - على مكانها الطبيعى فى العالم والعصر، ولم أقل أكثر.
.ومبكراً قلت فى نقد مختصر لتجربته "إنها شهدت اعتماداً - ربما أكثر من اللازم - على السلطة فى الداخل وعلى القوة فى الخارج، - قلت هذا وهو حى بيننا وحاكم رغم أننى أعرف - كما تعرف - عنف الحرب الضارية التى شنت على مشروعه الوطنى والقومى واضطراره إلى مواجهتها، ومع ذلك فلعلك أن تتبنى معى الدعوة إلى تحقيق شامل فى كل ما جرى حتى يتضح وجه الحقيقة.
.إن هناك بالقطع حساباً بالثواب والعقاب لابد للشعوب أن تمارسه مع الذين أثروا فى تاريخها، وهناك بالقطع دروساً محصلة تجارب لا يصح أن تنطبق عليها السجلات وكأنها القبور، وهناك أصول وجذور تعود إليها الشعوب فى كل ما تواجهه حاضراً ومستقبلاً لأن القضايا لا تهبط فجأة من السماء علينا، وإذن فإن كل أمة حية تناقش ماضيها بل وتحاكمه عند اللزوم، ولكنها تفعل ذلك نتيجة تحقيق دقيق وأمين - ومثل ذلك التحقيق الأمين يقوم به الوطن نفسه وليس أعداءه، ثم إن مثل هذا التحقيق لابد أن يعتمد أسلوب التدقيق وإلا حوّلته الأهواء إلى صنف من صنوف الحرب النفسية على الوطن نفسه، ولا يكون هدفها ضرب ماضيه وإنما ضرب مستقبله.
.هناك نقطة أخرى تستدعى ضرورة التحقيق - وهى من أجل مصر بالدرجة الأولى وليس من أجل جمال عبد الناصر، وكرامة للمستقبل وليس للماضى - فإذا كان الأساس خراباً فكل بناء فوقه آيل للسقوط، وإذا كان سليماً عرفنا على الأقل إلى أى حد يستطيع أن يحتمل!
.4- دعنى أسألك: أليس صحيحاً أن جمال عبد الناصر كشخص، كفرد، كبشر - غاب عن دنيانا منذ سبعة عشر عاماً وأكثر، ( صاروا 52 ولا زالت الحرب مستعرة ، فتأمل ! ) هذا بينما الحرب ضده ما زالت مستمرة، بل ويزداد لهيبها يوماً بعد يوم - لماذا؟
السبب - ولا يمكن أن يكون هناك غيره - هو أن هناك شيئاً ما زال باقياً من جمال عبد الناصر بعد الرحيل وبعد الموت، أسألك ما هو؟
وقد لا نختلف على أنه : الفكرة و المشروع و التجربة.
.هذه وحدها هى التى تبقى من أى رجل تاريخى - وتلك وحدها أسباب ظهوره فى عصره وبعد عصره، فى عمره وبعد انقضاء عمره.
5- توقف معى لحظة واحدة - لا أكثر - أمام معركة واحدة من معارك جمال عبد الناصر، تلك المعركة التى بدأت بالسويس - تأميم شركة القناة ثم الحرب - وانتهت بالسد العالى وإتمام بنائه وتشغيله - هل تراه كان فى حاجة إلى أكثر منها لكى يحقق "ظهوره" للعالم؟
سوف تجدها عندما تتأملها متفكراً، تجسيداً حياً لإدارة "فعل تاريخى" لا يحتاج إلى إضافة واحدة كى "يظهر" على العالم.
.أسألك: هل تذكر تلك الحملة الصاخبة على السد العالى، وكيف أنه فيما زعموا كان كارثة وطنية عظمى على مصر وليس ضرورة حياة؟ أو أنه فى أحسن الأحوال كان نصباً تذكارياً ضخماً لديكتاتور ولم يكن عملاً خلاقاً لمصلحة شعب - تذكر بالطبع هذه الحملة؟ ماذا حدث لهذه الحملة الآن؟ - سكتت وسكت أصحابها بعد أن "ظهر" - وهنا "الظهور" الحقيقى - لشعب مصر ولكافة الشعوب غيره أنه لو لم يكن بناء السد العالى لكانت مصر الآن تحت رحمة الجفاف والعطش ولانطفأت الأضواء فيها وساد ظلام !
.هكذا أقول - وأتمنى أن توافقنى - إن "الفعل التاريخى" هو الذى يظهر للعالم.
أشياء كثيرة ظهرت، وأشياء كثيرة فى سبيلها للظهور، وسوف يجىء يوم لا أظنه بعيداً تتفق معى على أنه مهما كان ما قيل ويقال فإن القرن التاسع عشر فى العالم العربى كان قرن "محمد على"، وأما القرن العشرين فى العالم العربى فهو حتى هذه اللحظة قرن "جمال عبد الناصر".
ولم تكن هناك وسائل إعلام مؤثرة فى عصر "محمد على"، ولا كان عصر "جمال عبد الناصر" فى حاجة إلى مثل هذه الوسائل.
.إن أكبر وأعظم التطورات فى قمة البشرية جرت دون أن تنتظر مجىء الصحافة والإذاعة والتليفزيون.
ثم أن الجنس البشرى كله عرف بما جرى وعاش فيه دون أن يتولى أحد مهمة "إظهاره" للعالم.
وكما قلت لك فإننى أحب أن أتصور أنه كان لى دور بجانب جمال عبد الناصر، لكنى لا أريد لك ولا لى أن نقع فى الوهم الذى تقول الحكايات أن بعض "الديكة" تستسلم له حين يخطر ببالها أن الصبح لا يطلع إذا لم تؤذن هى عند الفجر.
.إن الصباح سوف يطلع سواء أذّن الديك أو لم يؤذن لأن تلك قوانين الكون والوجود.
بقيت ملاحظة فربما كانت ذاكرتك ما زالت تحفظ مسؤولية كان لى فيها دور بعد رحيل جمال عبد الناصر. ذلك الدور هو أننى مع غيرى - حاولنا الحفاظ على بعض الزيت فى الشعلة، رأيت - ورأى غيرى - غارة همجية على "المعالم" و"الرموز" - وحاولت وحاولوا صد الغارة بكل الوسائل وكان من نصيبى لفترة من الفترات خندق القلم، وحاولت أن أحمى خندقى حتى ينقشع الغبار والقتام. وصدقنى إننى لم أكن أفعل ذلك "لإظهار" جمال عبد الناصر؛ وإنما كنت أفعله - بالاشتراك مع كثيرين - حتى يتبقى للوطن ما هو حق للوطن يبحث عن الحقيقة بنفسه، ويفحص ويفرز ويقرر لمستقبله ما يشاء.

تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق