معصوم مرزوق يكتب : أسفار السفر


سفر رحلة المبتدا 

أحكي لعل الكلمات تحمل بعض ذبذبات الروح ، بينما الربيع يهمس خلف النوافذ بصوت النوارس التي كانت قد توارت خلف سحابات الشتاء ..

رجل وامرأة في قطار مزدحم ، يتبادلان نظرات خاطفة متلهفة ، كلاهما لا يعرف محطة وصول الآخر ، ويتمني قبل الفراق الحتمي أن يهمس بما اعتمل في صدره ، ولكن المسافة فيما بينهما يملأها زحام الناس والباعة والحواة ، كلما اقترب الرجل خطوة ، تبتعد المرأة خطوتين ، وكلما اقتربت تباعد ، والقطار يهتز بشدة ، والضجيج يصم الآذان ، يتمني لو كان الزحام أقل ، أو لو ساد الصمت برهة ، فمن المؤكد أنها ستلتقط همسات شفتيه وصوت دقات قلبه ، وربما ادركت وطأة الرحلة عليه ، وأحاطت ببعض أوجاعه ..

 تتمني لو امتلك جرأة الفارس القديم كي يقفز بحصانه فوق رؤوس الأغبياء والتقاليد والزمن البليد كي يتأمل معها من نفس النافذة تلك الحقول الخضراء اليانعة المشبعة بالخصوبة ، والمزركشة بألوان الزهور القزحية ، كي ينصتا سوياً لأغاريد الطيور ، لكنه لا يزال علي نفس المسافة يسترق النظرة الهائمة ، يغزل في خياله نسيج زمن مستحيل ، وهي هناك ضائعة بين روائح عرق المسافرين ، تشرأب بعنقها وهي تنظر إليه كالمستغيثة ، يتبسم لها ثم يتواري ، يتمني لو استطاع أن يقرأ ما يدور في عقلها ، أو لو استطاعت هي أن تقرأ نظرات عينيه أو حركات شفتيه الصامتة ..

يكتب بضع كلمات فوق تذكرة السفر ، يرفعها بين أصابعه ، تومئ له برأسها ، يقذف التذكرة فوق الروؤس في اتجاهها ، ترفع ذراعيها بتردد ، ولكن التذكرة تطير عبر النافذة إلي الفضاء ، تنظر إليها بدقة وكأنها تحاول أن تقرأ ما فيها ، ويحني رأسه في يأس ، بينما القطار يرسل صفيراً مزعجاً وهو يرتج بشدة ..

 سفر الرحلة 

.. تواصل ..

لقد رحل " سانتياجو " بطل قصة بابلو لاكويلو من الأندلس عبر المغرب إلي إهرامات مصر كي يفتش عن الكنز المخبأ تحت الإهرامات .. ولكن الكنز الحقيقي كان في الرحلة نفسها .. فيما اكتسبه من معارف وخبرات خلال تلك الرحلة القاسية الطويلة المليئة بمواقف الإحباطات الكثيرة ...).

 سفر التكوين الأول 

لن أقبل منك بأقل من التوحد !! …أن تكوني أنا ، وأكون أنت ..

قد أمتلك من حسن البيان بعض قشوره ، قد أكتب عنك قصيدة ، 

وأكلم عنك النهر . 

قد أفعل ما يفعله الخبل بعقل العشاق ، 

إلا أن حضورك يمتلك كياني كله ، 

فتذوب الكلمات، ولا يتحدث غير الصمت . 

أواري عيني بعيداً عنك ، 

رغم الشوق إليك ، 

أبدو كمن يتهرب منك ، 

أتصرف في الواقع ليس كما أرغب ، 

ويقيني أن ملاكاً مثلك يخترق شغاف الصمت ، 

يتعمق خلف قناع الوجه وأقنعة المجاملات، و " أهلاً وسهلاً " ، و " أسعدنا اللقاء " ، 

و " هل نراك غداً ؟؟ " ..

أتوقع أن زماناً ومكاناً سيضم الجسد الجسد ، الروح الروح ، 

ينسج من عمرينا أروع قصة حب ..

أتوقع رغم الزمن المتعفن ، 

رغم السأم المتوطن ، 

رغم ظلام الليل ووطأة حرماني ونزيف القلب ..

أنا لا أهواك لأنك جسد وحدود ومعالم ، 

أنا لست الصب الهيمان الحالم ، 

أنا رجل أسعي بجراحي في هذا العالم .

أحمل في صدري قلبي ، 

أهديه رغيفاً لفقير ، 

أخزن في عيني دمعاتي ، 

أوزع بسمة حب للناس .. 

أنا لم أولد لأمت في قبر المجتمعات، أعطاني الله جناحين وملكني القدرة للطيران 

كوني حبة قمح، 

كوني ذرة ملح، 

كوني المطر، النهر، الثورة ، 

وجه امرأة يأتي من طاقة أحزاني، 

قد كونتك بين ضلوعي ، 

وتخيلتك منديلاً لدموعي ، 

إن لم تأت ، 

فأنا عند زمان آخر ، 

أكتب عنك ، 

وستأتين …

سفر الصبر والبارود

يبتسم .. يتذكر الزي الرسمي لطلبة الكلية الحربية .. في إجازة نهاية الأسبوع ، علي محطة مترو عبد العزيز فهمي ، بين رفاق الدفعة ، يخططون كيف سيقضون المساء ، والفتيات يقتربن زرافات وجماعات ، بعضهن يمارس شقاوة واستظراف ، لكنه لا ينسي تلك الكلمات القاسية التي كانت أحياناً تفلت من البعض وهو يسخر من العسكريين ، فقد كان زمان النكسة لا يزال قابضاً علي القلوب والخواطر .. 

يتذكر سيد وصفي .. رفيق الدفعة الشهم .. كانت الإبتسامة لا تفارق وجهه ، ويشاركه في مغامرات التدخين خلسة ، ويقول له أنه أفضل صديق وأخ ويتمني أن يشاركا معاً في القتال .. لقد حارب سيد في موقع آخر بعيد .. وكتب بدمائه أروع سطور الوطن .. في منطقة سهل الطينة ، استطاع مع رجال فصيلته أبطال الصاعقة أن يحجزوا بأجسادهم هجوم مضاد بالدبابات الصهيونية .. ولم يعد أحد منهم .. استشهدوا جميعاً بما فيهم سيد وصفي .. وسوف تمر السنون ويقرأ صاحبنا مذكرات قادة العدو ، ويعرف ما كتبوه عن معركة " سهل الطينة " .. قالوا أنهم فوجئوا بمن يبرز لهم من تحت الأرض ، ويدمرون دباباتهم الواحدة إثر الأخري .. لم يصدقوا ما يحدث أمام أعينهم .. أفراد يقفزون في اتجاه الدبابات المدرعة بصدورهم العارية .. ورغم قذفهم بكل وسائل النيران ، فأنهم لم يتراجعوا ... أكاد أتخيل سيد وصفي وهو يتقدم جنوده بابتسامته العريضة وهو يهتف بهم بلكنة أهل السويس المميزة كي يذيقوا العدو وصفة الصاعقة الناجعة ...

سفر الذكريات الخضراء  

يتذكر أيضاً السنة اليتيمة التي أمضاها في كلية الهندسة .. ومجلة الحائط التي كان يكتبها ويخططها ويرسم كل شيئ فيها حتي الكاريكاتير ، وكان اسمها " انتبه Pay attention " ، والحوارات والمناقشات حول موضوعاتها ليس فقط مع زملاء السكشن أو الدفعة ، بل ومع من هم أكبر منه في السنوات النهائية بكلية الهندسة .. 

ولا ينسي دموعه ذلك الصباح ، حين أكتشف أن أحدهم قد مزقها ، وترك ورقة في لوحة الإعلانات يشتمني فيها بدون توقيع !!

سفر البارود 

صورة قديمة لي بالزي العسكري ، تأملت فيها لبعض الوقت وكأنني أحاول إعتصار ما الذي كان يدور في عقل ذلك الشاب في ذلك الزمن البعيد .. سرحت طويلاً وأنا استعيد الزمان كله كشريط سينمائي .. الجبال التي صعدتها ، والوهاد التي مشيتها ، وفترات الإرتواء ، وفترات الظمأ .. من مات ومن عاش .. صفحاتي المحبوسة في صناديق عديدة في بيت الأسرة القديم ، وفي بيتي الجديد .. اللقاءات العديدة والمناقشات .. وكأنني أكتشف الآن أنني عشت حياة جادة للغاية .. أو جافة باستثناء فترات قصيرة ..

سفر الكهولة 

أنه يشعر بها ، يسمع إستغاثتها به وهو عاجز أن يمد لها يد العون ، حتي محاولاته للتأكيد بأنه سيبقي هناك حافظاً للعهد ، فشلت في تضميد جرحها ، وإنقاذها من حيرتها ، وهو مطروح بآلامه يتألم من أجلها ألماً إضافياً ..

سفر الكلمة والإحتراق

يحمل الكاتب أوراقه التي جمع فيها مادة بحثه ، يقلبها بين أصابعه ، يتأمل في الليالي التي أمضاها في البحث والتحليل ، يخنقه شعور الزمن الضائع والجدوي المنعدمة ، تتشابك الحروف في عينيه ذائبة بين دموعه ، يفكر أن يشعل حريقه الصغير ، أي حريق حتي ولو كانت ضحيته تلك الحزمة من الأوراق ، فذلك هو الحريق المتاح ، ومن الوهم والغرور أن يتخيل أن كتاباً سوف يعيد الفردوس المفقود ..

ولكنه يتوقف في اللحظة الأخيرة عن إشعال النار ، فتلك الأوراق هي جزء حميم من ذاته ، بل هي ذاته ، ماذا يتبقي منه إذا أحرق هذه الأوراق ؟ .. ثم كيف يرضي أن يترك الساحة لأوراق السحر والدجل والشعوذة والخرافة التي تتزاحم في سوق الوراقين ، دون أن يحاول ، فربما كانت أوراقه عصا موسي التي تلتهم كل هذه الأوراق ، أو يكفيه علي الأقل شرف المحاولة !! ...يعيد جمع أوراقه في حرص ، يرتب أفكاره من جديد ، يقول لنفسه في تصميم : " حتي ولو أدركتني القيامة ، فلا بد أن أغرس فسيلتي في الأرض " 

تعليقات