خرج علينا من يُنذرنا بأن الدولار سيصل إلى 100 جنيه في حال اندلاع حرب بين مصر وإسرائيل. لكنه لا يتحدث في الاقتصاد، بل يُمعن في الحديث عن السياسة، ويبشّر مقدمًا بالهزيمة المسبقة. حتى لو انتصرت مصر في المعركة، فهي ـ في نظره ـ مهزومة. كأن الهزيمة، كما يراها، قدر محتوم لا مفر منه.
هذا النوع من النبوءات لا يقوم على تحليل اقتصادي، بل ينبع من رغبة دفينة في إشاعة حالة نفسية جماعية تتغذى على الخوف والتشاؤم. المبشّرون بالهزيمة لا يكتفون بتوقّع المخاطر، بل يضخّمونها ويحوّلونها إلى نبوءات كارثية، تُغتال بها المعنويات وتُقوّض الثقة قبل أن تُطلق أول رصاصة.
يخرجون علينا في لحظة تتكاثر فيها الأزمات وتتشابك فيها المصالح، ليُروّجوا لفكرة أن الهزيمة خيار عقلاني، أو حتى وجهة نظر قابلة للنقاش. هؤلاء لا يناقشون احتمالات الحرب، بل يشيعون قناعة مسبقة بأننا خاسرون مهما فعلنا، وأن المقاومة عبء، وأن الدفاع عن السيادة مغامرة غير محسوبة.
إنهم لا يُحلّلون الواقع، بل يُعيدون إنتاج الخوف، ويحوّلون القلق المشروع إلى خطاب انهزامي يُقنّن الانسحاب ويُشرعن التراجع.
حين يُقال إن دخول مصر في حرب سيؤدي إلى انهيار اقتصادي، وإن الدولار سيقفز إلى مئة جنيه، فإن هذا لا يُعبّر عن قراءة دقيقة للمشهد، بل عن رغبة في تثبيت العجز كحالة دائمة. إنه خطاب لا يُدافع عن الاستقرار، بل يُقوّض الإرادة، ويحوّل كل تحدٍّ إلى كارثة محتومة.
أخطر ما في هذا المنطق أنه لا يواجه الحرب، بل يواجه فكرة المواجهة ذاتها.
إنه لا يكتفي بالتحذير من التبعات، بل يُشكّك في جدوى الدفاع عن النفس، ويُقلّل من قيمة الصمود، ويُفرّغ النصر من معناه. حتى لو تحقّق الانتصار، فإن هذا الخطاب سيظل يردد أن الثمن كان باهظًا، وأن المكاسب لا تُحتسب، وأن الخسارة كانت حتمية.
إنه منطق يُقنّن الانكسار ويُلبسه ثوب الحكمة الزائفة.
الحرب ليست رغبة، بل احتمال قائم في عالم مضطرب. وإذا فُرضت، فإن أول ما تحتاجه الشعوب هو الثقة في ذاتها، وفي قدرتها على المواجهة.
أما خطاب المبشّرين بالهزيمة، فيُضعف هذه الثقة، ويقوّضها من الداخل، ويحوّل كل أزمة إلى مبرر للانسحاب، وكل لحظة مصيرية إلى فرصة لتبرير التراجع.
الهزيمة ليست وجهة نظر، بل نتيجة تُفرض حين يُغتال الوعي، وتُخنق الإرادة، ويُستبدل التحليل بالذعر، والعقل برصيد الحساب البنكي.
هذا المنطق لا يُدافع عن الوطن، بل يُفرّط فيه، ويحوّل الخوف إلى عقيدة، والانسحاب إلى سياسة.
ليس كل شيء يُقاس بالدولار؛ فثمة قيم لا تُحتسب بالأرقام، بل تُوزن بالعزّة والكرامة الوطنية.
إن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية من أن تنهار، أولى من الحديث عن سعر صرف الدولار.
الدولار يصعد ويهبط، أما المصالح الاستراتيجية، فهي ليست سلعة في بورصة نيويورك، ولا بندًا في نشرة أسعار الصرف.
إنها ما يُبقي الدول واقفة حين تتهاوى العملات.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق