نادرًا ما يلمع نجم في سماء الصحافة والسياسة بهذه القوة، تاركًا أثرًا لا يُمحى في الذاكرة، كما فعل محمد حسنين هيكل (23 سبتمبر 1923 – 17 فبراير 2016).
صحفي بدأ رحلته في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، وظل حاضرًا في قلب الأحداث أكثر من سبع عقود، متقد البصر في قراءة خفايا السلطة ومتيقظًا لكل تحوّل سياسي.
كانت كلماته أكثر من مجرد سرد للوقائع، بل شعلة تُنير الغموض وراء الكواليس وجسرًا يربط بين الواقع والتحليل، لتصبح شاهداً ومشاركًا في صناعة التاريخ، ورمزًا للصحفي الذي لا يكتفي بالتسجيل، بل ينسج الوقائع بأسلوبه الفريد، ليظل صوته حاضرًا في وجدان أمته.
بدأ محمد حسنين هيكل مسيرته الصحفية في عام 1942 بجريدة "الإيجيبشيان جازيت"، ثم انتقل إلى مجلة "روزاليوسف"، وعمل بمجلة "آخر ساعة" تحت إشراف محمد التابعي، قبل أن ينضم إلى مؤسسة "أخبار اليوم" حيث أصبح مقربًا من علي ومصطفى أمين، وتولى رئاسة تحرير مجلة آخر ساعة في عام 1952، ثم تولى رئاسة تحرير جريدة الأهرام ورئاسة مجلس إدارة مؤسسة الأهرام في عام 1957، واستمر فيها حتى فبراير 1974 حين غادر الأهرام بسبب خلافه مع الرئيس أنور السادات على الإدارة السياسية لحرب أكتوبر 1973. وبعد خروجه من مؤسسة الأهرام قرر التفرغ للكتابة بعيدًا عن المناصب الرسمية.
مع الملك فاروق، لم يكن هيكل خصمًا للعرش بقدر ما كان كاتبًا لامعًا يسجل الوقائع ويحلل مجرياتها بعين الصحفي الباحث عن الحقيقة. شارك في تغطية أبرز الملفات آنذاك، وعلى رأسها حرب فلسطين عام 1948، لتكشف كتاباته المبكرة عن موهبة لافتة سرعان ما حصدت لها جوائز وتقديرًا واسعًا، واضعة إياه في الصفوف الأولى بين صحفيي جيله.
مع جمال عبد الناصر بلغ هيكل ذروة نفوذه، حيث أصبح الصحفي الأقرب إلى قمة السلطة، وصاحب الكلمة المؤثرة في تشكيل الرأي العام. حوّل الأهرام إلى واحدة من أهم الصحف في العالم، وجعل من الأهرام مؤسسة رابحة وناجحة على كافة الأصعدة. كان الناطق بلسان عبد الناصر ومحامي نظامه، وظل مقاله الأسبوعي "بصراحة" نافذة تعكس توجهات النظام وأفكاره، وتكشف ما وراء الكواليس.
مع أنور السادات، مرت علاقته به بمرحلتين متناقضتين: بدأت بتحالف وثيق، حيث دعمه في بداية حكمه في مواجهة خصومه بقمة السلطة، لكنه سرعان ما دخل معه في قطيعة بسبب خلافات حول الانفتاح الاقتصادي والتوجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية والسلام مع إسرائيل.
مع حسني مبارك، اتخذ هيكل موقع الناقد الدائم. رأى أن حكمه امتداد لحالة "الركود السياسي"، وانتقد غياب الرؤية والفساد واعتبره إداريًا أكثر منه قائدًا. وقدّم تحذيرات مبكرة من انفجار الغضب الشعبي ومخاطر التوريث، وهو ما تحقق مع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 التي أعلن هيكل تأييده لها بوضوح، واعتبرها النهاية الطبيعية لحقبة مبارك.
مع محمد مرسي في فترة حكمه (2012-2013)، التقى به أكثر من مرة، لكنه سرعان ما أبدى خيبة أمله من أداء الإخوان، محذرًا من أنهم يفتقرون إلى الخبرة والرؤية وأن التجربة قصيرة العمر.
مع عبد الفتاح السيسي، ظل حاضرًا في المشهد السياسي. اعتبر 30 يونيو 2013 امتدادًا لتصحيح مسار يناير 2011، وأعلن دعمه للسيسي في مواجهة الفوضى والإرهاب، مؤكدًا أن مصر تحتاج إلى قبضة قوية لإعادة بناء الدولة.
كتب محمد حسنين هيكل تعد من أهم المراجع التي تناولت تاريخ مصر والعالم العربي، فهي تجمع بين ثراء المعلومات ودقة التوثيق وسلاسة الأسلوب، غير أن ما كتبه هيكل واسع ومتشعب إلى درجة أن الحديث عنه بالتفصيل يحتاج إلى كتاب مستقل، ولذلك سأكتفي هنا بالانتقاء من بعض أعماله والإشارة إليها دون الغوص في كل ما تركه من تراث مكتوب.
كتاب "إيران فوق بركان"
صدر أول كتاب للأستاذ هيكل "إيران فوق بركان" في عام 1951، وكان تحقيقًا صحفيًا وتحليلًا سياسيًا لأسباب اغتيال رئيس وزراء إيران علي رزام آرا في 7 مارس 1951 على يد جماعة فدائيان إسلام، بسبب معارضته لتأميم النفط الإيراني. والأزمة السياسية الخطيرة التي سببها هذا الاغتيال أدت إلى تولي محمد مصدق رئاسة الوزراء.
كتاب "لمصر.. لا لعبد الناصر"
صدر في عام 1976، وجاء ردًا مباشرًا على الحملة التي استهدفت اغتيال عبد الناصر معنويًا بعد حرب أكتوبر 1973 برعاية الرئيس أنور السادات. أراد هيكل من خلاله التصدي لمحاولات تشويه تجربة عبد الناصر وتفكيك المشروع الوطني لثورة يوليو لصالح الانضواء تحت المظلة الأمريكية، مؤكدًا أن جوهر القضية هو مستقبل مصر واستقلال قرارها الوطني، لا شخص عبد الناصر. وصف هيكل هذا الكتاب بأنه أقرب كتبه إلى قلبه.
كتاب "خريف الغضب"
صدر في عام 1983، وهو أشهر كتبه وأكثرها إثارة للجدل. لم يكتف فيه هيكل بمجرد تسجيل وقائع حكم أنور السادات، بل قدم تحليلًا نفسيًا وسياسيًا لشخصيته، وربط بين خلفيته الاجتماعية واختياراته السياسية. اتهمه بتبديد إنجازات ثورة يوليو، وإطلاق سياسة الانفتاح بلا ضوابط، وفتح أبواب التبعية للولايات المتحدة. ظل الكتاب حتى اليوم وثيقة أساسية في فهم مرحلة السادات.
كتاب "بين الصحافة والسياسة"
صدر في عام 1984، ويكشف فيه بوضوح تداخل الصحافة بالسياسة وكيف يمكن أن تتحول المؤسسات الإعلامية إلى أدوات للتأثير والتوجيه بما يخدم مصالح قوى خارجية. وقد أثبت هيكل بالوثائق جاسوسية مصطفى أمين لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، ولم يكتفِ بالسرد بل وجّه تحديًا مباشرًا إلى مصطفى أمين أن يرد على ما عرضه من وثائق وحقائق، وهو تحدٍّ لم يجد أمين سبيلًا إلى مواجهته حتى وفاته في عام 1997.
رباعية حرب الثلاثين سنة
مجموعة من أربع كتب أراد بها هيكل أن يقدم أرشيفًا وثائقيًا لتاريخ مصر السياسي والعسكري منذ أزمة السويس وحتى حرب أكتوبر، بالوثائق والتحليل:
1. كتاب "ملفات السويس"
صدر في عام 1986 في ذكرى مرور 30 سنة على تأميم قناة السويس. تناول نهاية العهد الملكي ومقدمات ثورة 23 يوليو وملحمة تأميم قناة السويس 1956، كاشفًا كيف تحولت أزمة قناة السويس إلى نقطة فاصلة أعادت رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، وربط بين ما جرى في مصر والتحولات في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
2. كتاب "سنوات الغليان"
صدر في عام 1988. يغطي الفترة من نهاية حرب 1956 حتى عام 1964. رصد فيه هيكل صعود المشروع الناصري إلى ذروة قوته، وكيف تحولت مصر إلى لاعب إقليمي ودولي فاعل، مشغولة ببناء السد العالي، وتطوير الجيش، وتثبيت الاستقلال في مواجهة الضغوط الغربية. الكتاب يكشف عن لحظة امتلأت بالثقة والطموح، لكنها حملت أيضًا بذور الصدام المقبل.
3. كتاب "الانفجار 1967"
صدر في عام 1990. يتناول مقدمات ووقائع ونتائج حرب 5 يونيو 1967، باعتبارها اللحظة الأكثر قسوة في التجربة الناصرية. لم يقدم هيكل كتابًا عسكريًا بحتًا، بل تشريحًا سياسيًا وتاريخيًا لهزيمة هزت وجدان الأمة. ركّز على الضغوط الإقليمية والدولية التي سبقت الحرب، وعلى حسابات خاطئة في إدارة الأزمة أدت إلى اندلاعها، لكنه حرص على إبراز أن ما جرى لم يكن وليد قرار فردي بقدر ما كان نتيجة تراكمات داخلية وخارجية. وبعد الهزيمة، حلل انعكاساتها على صورة عبد الناصر ومشروعه. أراد هيكل أن يسجل كيف تحولت سنوات الغليان إلى انفجار.
4. كتاب "أكتوبر 73: السلاح والسياسة"
صدر في عام 1993 في ذكرى مرور 20 سنة على حرب أكتوبر 1973. جمع فيه بين الشهادة والتوثيق لحرب أكتوبر، مركزًا على البعد السياسي الموازي للمعارك العسكرية، وكيف كانت الحرب جزءًا من لعبة دولية أوسع أراد السادات أن يستخدمها لفتح باب التسوية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. الكتاب يكشف رؤية هيكل أن النصر العسكري لم يُترجم إلى مكاسب استراتيجية بحجم التضحيات.
هذه الكتب تمثل غيضًا من فيض إبداعات الأستاذ هيكل، وقناعتي أن الاطلاع على كل كتبه ومقالاته ومحاضراته يُعد ضرورة لكل من يسعى لفهم التاريخ والمشاركة بوعي في مهمة التأريخ.
لقد جسّد هيكل نموذج "الصحفي–المؤرخ" الذي تخطى حدود المهنة الضيقة، ليتحول إلى مثقف عضوي يشارك في معارك عصره الفكرية والسياسية.
كان هيكل شاهدًا على ثورات وانقلابات وحروب، وعاصر ملوكًا ورؤساء. لم يكن مجرد راوٍ، بل ضمير عصره ومرآته، حمل صخب الحروب وأسرار القصور، وبقي أثره شاهدًا على أن للكلمة حياة أطول من أعمار أصحابها، وأن التاريخ يظل وفيًا لمن كتبه بصدق وإيمان.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق