شهدت نيبال خلال العقدين الأخيرين تحولات عاصفة غيّرت وجهها السياسي والاجتماعي. البداية كانت عام 2001 مع المذبحة المروعة داخل القصر الملكي، حين أطلق ولي العهد "ديبيندرا " الرصاص على والديه الملك "بيريندرا " والملكة "أيشواريا" وعلى عدد آخر من أفراد العائلة المالكة،ومنهم أعمامه، تحت مزاعم رفض العائلة لزواج ولي العهد من إحدى الفتيات ،ورغم أن التحقيق الرسمي حمّل ولي العهد المسؤولية منفرداً، إلا أن الشكوك حول المذبحة المروعة لم تهدأ، خصوصاً بعد أن آل العرش إلى عمه "جيانيندرا " الذى تغيب وحده عن الإحتفال الملكى وكان الناجى الوحيد من العائلة ،
هذه الحادثة فتحت الباب لزعزعة النظام الملكي، ومع تصاعد التمرد الشيوعي وحراك الشارع، سقطت الملكية رسمياً عام 2008 وأُعلنت نيبال جمهورية ديمقراطية اتحادية. غير أن الجمهورية الوليدة لم تعرف الاستقرار أبدا، إذ تعاقب على الحكم أكثر من أربع عشرة حكومة خلال أقل من عقدين، وسط صراعات حزبية حادة، واتهامات متكررة بالفساد، وتدخلات خارجية متشابكة من الهند والصين والولايات المتحدة وعدة قوى أوروبية، كلٌّ يسعى لتعزيز نفوذه ولو على حساب المصلحة الوطنية لنيبال.
وفي وسط هذا السياق المشحون، اندلعت في سبتمبر 2025 احتجاجات واسعة عقب قرار حكومي بحظر 26 منصة تواصل اجتماعي كبرى، بينها فيسبوك وإنستجرام ويوتيوب وواتساب وإكس (تويتر سابقاً). وقد استند ذلك القرار إلى توجيهات قضائية وإدارية تلزم هذه الشركات بالتسجيل محلياً وتعيين ممثلين قانونيين، بدعوى مواجهة التضليل والمحتوى غير القانوني. غير أن الشركات الأمريكية الكبرى رفضت الامتثال، ما أدى إلى حجب خدماتها، بينما استجابت بعض المنصات غير الأمريكية ،،
وسرعان ما تحولت شرارة الغضب الرقمي إلى انتفاضة شعبية أوسع ترفع شعارات براقة ضد الفساد والمحسوبية وتفاقم الفجوة الاقتصادية، حيث نظم المحتجون صفوفهم عبر تطبيقات تواصل بديلة،لتتصاعد بعدها الأحداث وتتطور إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن أسفرت عن سقوط نحو 72 قتيلاً وأكثر من 1300 جريح. وبلغت الأحداث ذروة العنف مع إحراق مبانٍ حكومية، بينها البرلمان وساحة الرئاسة، وهو ما أجبر رئيس الوزراء "كي بي شارما أولي" على الاستقالة في 10 سبتمبر وحل البرلمان. وتم تكليف القاضية السابقة "سوشيلا كاركي" برئاسة حكومة انتقالية حتى إجراء انتخابات مقررة في مارس 2026.
لكن ما روّجت له بعض وسائل الإعلام الدولية باعتباره "ثورة ضد الاستبداد الشيوعي" لا يعكس الصورة الكاملة. فالنظام في نيبال جمهوري قائم على انتخابات ديمقراطية، والقرار المتسبب في الأزمة كان بالأساس إجراءًا قضائياً وإدارياً. غير أن رفض الشركات الأمريكية الالتزام بالقوانين المحلية وفّر أرضية خصبة لتأجيج الغضب الشعبي، في ظل تناقضات داخلية وصراعات جيوسياسية خارجية.
فتجربة نيبال تضع أمامنا سؤالاً جوهرياً: هل كل ثورة بالضرورة حركة تحرر مقدسة؟ الجواب لا. فقد تكون تعبيراً مشروعاً عن غضب شعبي محدود ، لكنها قد تُستغل أيضاً كأداة في صراعات الآخرين أو تتحول إلى ثورة مضادة تُجهض فرص الإصلاح.
وما تحتاجه الشعوب هو وعي عميق وقيادة رشيدة، حتى لا تتحول طاقتها الثورية إلى وقود لمعارك تحقق مصالح خارجية على حساب الدماء الوطنية
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق