علي أبو هميلة يكتب : صباحوا كدب


هل المعرفة مرادف للإبصار أي الرؤية بالعين مرتبط بقدر ما تعرف عما يحيط بك من أحوال، أحداث، شخصيات، وطباعهم وأخلاقهم؟ تلك المعضلة حاول السيناريست المصري أحمد عبد الله أن يطرحها من خلال فيلمه  صباحو كدب الذي أنتج في عام 2006 وأخرجه محمد النجار أحد مخرجي جيل الثمانينات في السينما المصرية، ولعب بطولته الممثل المصري أحمد أدم، وبدا الفيلم خفيفيا لا عمق أو فلسفة فيه ومر عابرا على المشاهد المصري. 

أحمد عبد الله 

مؤلف صباحو كدب أحمد عبد الله صاحب أشهر الأعمال الكوميديا في الربع قرن الأخير من سلسلة اللمبي والأفلام التي قدمت جيل من الفنانين الكوميديا في مصر أحمد حلمي في ميدو مشاكل، و55 إسعاف، والراحل علاء ولي الدين في عبود على الحدود، وأبن عز، محمد هنيدي في عسكر في المعسكر، ويا انا يا خالتي، ومحمد سعد في أغلب أفلامه، أيضا عبد الله قدم الكثير من الأفلام الكبيرة في تاريخ السينما الحديثة منها كبارية، ساعة ونصف، الفرح، الليلة الكبيرة، وأخيرا المحكمة إنتاج 2021، وليلة العيد أنتاج 2024، والمدقق والمتابع لأحمد عبد الله يجد أنه سينمائي على درجة كبيرة من الوعي والفكر، ولا يجب أن نتعامل مع ما يقدمه بحفة. 

ورغم أنني شاهدت فيلم صباحو كدب مرات عديدة ربما بالصدفة أو بلحظة زهق دينوي إلا أنه ألح على عقلي خلال الأسبوعين الماضيين بشكل غريب وعجيب، وتسألت كثيرا عن مغزي أحمد عبدالله من الفيلم، وانا أعرف عبد الله منذ سنوات الجامعة وما بعدها وفي سنوات كان لنا مشاريع درامية وبرامجية لم تتم للأسف، اعرفه وأدرك ما يكنه داخله من فلسفة ومعرفة، لذا كان إلحاح مغزي الفيلم حاضرا وأنا أفكر فيما يمر حولنا من أحداث. 

المعرفة تعني الإبصار 

ما الفكرة الرئيسية التي يريد أحمد عبد الله في صباحو كدب عن قصة أو فكرة طويلة لنهى العمروسي من خلال مدرس الموسيقى الكفيف عبد المنعم أو (نعناع) كما يشتهر بين أصدقائه، نعناع يعيش في عالم من الخيال يرسمه له صديقه أو من يدعي صداقته (شفيق) ولأن نعناع كفيف حرفيا ولا يتمتع بأي مقدار من الحس الذي يميز الكثير ممن يعانون فقد الأبصار سهل على شفيق حداعه في رسم صورة وردية لعالمه كما يتمناه نعناع أو عبد المنعم، هذا العالم الذي يعيشه نعناع عبر صديقه لم يكن فيه أي خلل قيمي أو اخلاقي، الشرف، الأخلاق، القيم وهم عاشه نعناع سماعي، والحقيقة غير ذلك تماما. 

شخصية نعناع تقترب من السذاجة أو البلاهة في تعامله مع الحياة، ورغم أنه موسيقي ولكن حتى هذه الموهبة والمنهة التي تعتمد على رفاهة الأحساس والمشاعر الراقية يفتقدها نعناع كثيرا فهو موسيقي كما يطلق عليه أهل المهنة آلاتي، وهو الشخص الذي يعرف كيف يعزف على الآلات فقط، وموسيقاه  صارخة بدون أحساس، وهذه الإضافة للشخصية مهمة من جانب السيناريو، فيجعله آلة كما حياته الخالية من التعاطف أو الرؤية، فهو كفيف تماما بصرا ورؤية. 

نماذج مختلفة للكفيف 

تجمعت صفات في البطل تجعله كفيف العقل والقلب، وتكون الصدمة الكبرى عندما تقوده حادثة إلى أن يستعيد بصره، فيكتشف أن كل ما عاشه كان وهما، وقد رسم صديقه له عالم من السعادة والبهجة والقيم والمثل لم تكن موجودة سوى في خيال نعناع الكفيف، لم يكن نعناع نموذجا لكفيف فيلم الكيت كات مثلا الشيخ حسني الذي كانت معرفته تولد لديه أحساس الرؤية لدرجة أنه لا يصدق أنه كفيف فعلا ويقوم بما لا يقوم به أصحاب البصر فعلا، ولم يكن نعناع نموذجا لشخصيات حقيقية كانت معرفتها وأحساسها تجعلنا لا نشعر بعجز نعمة البصر لديهم، ولدينا أمثلة كثيرة على رأسهم عميد الأدب العربي طه حسين، وفي مجال الموسيقى مثلا عمار الشريعي، وسيد مكاوي هؤلاء الدين أبصرو بقلوبهم ومعرفتهم، وهناك أصدقاء أعرف قصصهم كانوا فاقدي نعمة البصر ومع ذلك يصل أحساسهم وإدراكهم أن يلعبوا لعبة صعبة مثل الشطرنج. 

الفكرة هل فاقد البصر فقط هو من يفقد القدرة على الأبصار، أم أن الغرض هنا هي المعرفة، فكلما زادت معرفتك كان الأبصار، وهو ما ينطبق عليه مثل السفر إلى أماكن أخرى فالعالم الذي لا تراه أنت أعمي عنه، وكلما زادت معرفتك زاد أبصارك للحياة، هذه المعرفة التي يصل أحساسك إلى حد الكراهية لها عندما تعرف ما لا تستطيع تحمله، وأحيانا تقول ليتني ما عرفت الحقائق، ويتردد في داخلنا مقولة "أعطني أعلاما بلا ضمير أعطيك شعبا لا يفهم" التي قالها وزير الإعلام الإلماني جوبلز في العصر النازي، ويأتي نظرية أعلام السلطات المستبدة التي ترسم صورا وردية للعالم في عقول الشعوب مليئة بالإنجازات والأحلام السعيدة، يلعب شفيق في فيلم أحمد عبد الله صباحو كدب هذا الدور ببراعة، هو دور الإعلامي الكاذب، السياسي الكاذب، القائد الكاذب الذي يجعل المواطن يعيش عالما من الأوهام بين التصريحات والواقع، كانت هناك مقولة شائعة في مصر أن كل ما تنشره الصحف حقيقة، تنتشر هذه المقولة بين الطبقات الفقيرة الغير متعلمة، لدرجة وصلت إلى الكوميديا حينما تنشر الصحف خبر وفاة أحدهم فيصدق أنه مات وهو يقرا الجريدة، نوع من السخرية تقول "ده مكتوب في الصحف" 

هل عدم المعرفة نعمة؟ 

هذا التناقض بين الواقع والحقيقة يجعلنا أحيانا نكره أن نعرف وهو ما أبرزه أحمد عبد الله تماما في نهاية فيلمه العابر في تاريخ السينما، فقد أبصر البطل أو أعيد له نظره ليعرف ما حوله، وكانت الصدمة الكبيرة كل ما حوله مزيف، لا شيء حقيقي، رسموا له حياة ليست حياته، صدمة أفقدته الوعي بالطريق فيقع له حادث آخر في الطريقن وبينما المارة يوسوانه لفقدان بصره يصرخ هو "الحمد لله لا أرى" الحمد لله تخرج من أجل عدم الإدراك، عنما كان لا يعرف كان يعيش حياة أفضل، فهل مرت عليك لحظة ندمت فيها على الأدراك والوعي. 

نعم الإدراك ثقل كبير على العقل والنفس والوجدان، وكم من مرة تمنيت إلأ أعرف عن شخصا ما، حدث ما، واقع ما ما عرفت فلولا المعرفة لكنت أكثر راحة، و هو ما نتجازره أحيانا بمقولة "المجانين في نعيم" لأننا نعرف أو نقول أنهم لا يدركون الواقع، أحيانا أتمنى أن أكون ذلك الذي لا يعرف المتواجد في أقصى بقاع الأرض لا يعرف ما يدور في العالم، وأحيانا تمر لحظات نقول ليتنا نعتزل هذا العالم ونصبح مثل الإنسان البدائي الذي لا يعرف، ربما لو فقدنا المعرفة نصرخ مثل بطل فيلم محمد النجار وأحمد عبد الله "الحمد لله لم أعد أرى" لكن الفيلم يوضح لنا تماما نموذج هذا الإنسان الذي يرفض المعرفة ويجعل من جهله وسيلة سعادة وهو نموذج كثير ولكنه عاجز عن النجاة بحياته، فالمعرفة سر الكون لنعرف حتى لا نصبح عميان. 

المصدر : الجزيرة مباشر نت 

تعليقات