حسن مدبولي يكتب : التطبيع القسرى وطوفان الأقصى


قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت المنطقة تسير بخطى حثيثة نحو ما سُمّي بـ«سلام جديد»، تتصدره اتفاقيات إبراهيم التي فتحت أبواب التطبيع العلني بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وذلك تنفيذا لتوجيهات دونالد ترامب فى دورته الأولى، 

بينما تُركت القضية الفلسطينية على الرصيف، باردة يتيمة، لا يذكرها أحد إلا في خطب المناسبات العقيمة،بل وفى خضم ذلك التطبيع أعلن ترامب أن القدس أرض صهيونية، 

 كان المشهد يوحي بأن إسرائيل لم تعد عدوًا بل شريكًا تجاريًا واستثماريًا واعدًا، وأن واشنطن وجدت أخيرًا الصيغة السحرية لدمجها في النسيج الإقليمي دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا حقيقيًا.

وقّعت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان اتفاقات متسارعة، حملت معها لغة اقتصادية براقة: استثمارات، سياحة، تكنولوجيا، ووعود بمستقبل زاهر. أما المكاسب السياسية، فكانت متفاوتة: المغرب نال اعترافًا أمريكيًا بسيادته على الصحراء الغربية، والسودان أزيح اسمه من قائمة الإرهاب، بينما حصدت إسرائيل وحدها الجوائز الكبرى، إذ خرجت من عزلتها الإقليمية وفتحت لنفسها أسواقًا جديدة في عمق العالم العربي.

غير أن الحدث الأهم، والذي كانت واشنطن تراهن عليه بشغف، كان في الرياض. فالمحادثات بين السعودية وإسرائيل بلغت في صيف 2023 مراحل متقدمة، حملت وعودًا بفتح الأجواء، وتعاونًا أمنيًا ضد إيران، واتفاقًا دفاعيًا أمريكيًا يضمن للمملكة مظلة حماية في مقابل تطبيع تدريجي مع تل أبيب. حتى ما تبقّى من «القضية الفلسطينية» في النصوص كان أشبه بديكور بروتوكولي يُراد به حفظ ماء الوجه لا أكثر. بل وتم اعتقال منتسبى حماس بالمملكة، حتى بدا أن الإعلان الرسمي عن التطبيع  بات قريبًا، وأن المنطقة تستعد لمشهد جديد تُرفع فيه الأعلام متجاورة، وتُخفض فيه المعايير إلى أدنى درجات الواقعية السياسية. 

ثم جاء السابع من أكتوبر.

لم يكن «طوفان الأقصى» مجرد هجوم مسلح، بل عاصفة قلبت الحسابات رأسًا على عقب. فقد تجمّدت المفاوضات بين الرياض وتل أبيب فورًا، وارتبكت الإدارات الغربية التي كانت تُعدّ بيانات الاحتفال بالاختراق التاريخي. تحوّل «السلام الدافئ» إلى عبء ثقيل على الحكومات المطبِّعة، وخرج الرأي العام العربي من سباته الطويل. عاد الفلسطينيون، فجأة، إلى صدارة المشهد بعد أن كادوا يتحولون إلى «الهنود الحمر» في خريطة الشرق الأوسط الجديد.

المفارقة أن الدول التي سيقت إلى التطبيع لم تُنهِ علاقاتها مع إسرائيل، لكنها فقدت الحماسة التي كانت تصحبها. الإمارات والمغرب وُضعتا تحت ضغط شعبي وإعلامي كبير، وتراجع زخم الاستثمارات والمشروعات المشتركة. أما السودان فابتلعته حربه الداخلية، ولم يعد التطبيع ضمن أولوياته. وفي المقابل، ازدادت المعارضة الشعبية للصهاينة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا ومصر والأردن ، وتوقفت أي محاولات جديدة لضمّ دول إسلامية أخرى إلى المسار ذاته.

لقد نجح طوفان الأقصى في ما فشلت فيه بيانات الجامعة العربية وخطب القمم، وأعاد فلسطين إلى الوعي.كما لم يعد بالإمكان الحديث عن تحالفات جديدة أو شرق أوسط مزدهر دون المرور أولًا من بوابة غزة. فمشاهد الدمار والدم والدموع هزّت ضمائر شعوبٍ حاولت حكوماتها إقناعها بأن التطبيع هو طريق الخلاص. 

صحيح أن الحرب أنهكت غزة، وجعلت من شوارعها أطلالًا تشبه هيروشيما، لكن روحها بقيت حيّة، بل أقوى من أي وقت مضى. فالعالم الذي تجاهلها سنوات عاد ينظر إليها بدهشة وتأنيب ضمير. صارت صور أطفالها تختصر مأساة القرن، وصمودها أعاد تعريف الكرامة في زمن الانحناء. حتى أولئك الذين راهنوا على نسيانها أدركوا أن ما جرى ليس عابرًا، وأن المنطقة بعد أكتوبر لن تكون كما كانت قبله.

ربما تعود محاولات التطبيع لاحقًا، وقد تُغيَّر مسمياتها أو تُخفَّف لهجتها، لكنّ الحقيقة التي فرضها الطوفان باتت واضحة: لا يمكن لأي اتفاق أو تحالف أن يصمد فوق ركام العدالة. لقد استُهلكت لغة “الواقعية السياسية” حتى البذاءة، وجاءت غزة فى السابع من اكتوبر  لتذكّر الجميع بأن هناك حدودًا لا يمكن تجاوزها بلا ثمن

تعليقات