كنا نسكن في حي مدينة الطلبة بين مدينة الصحفيين وإمبابة. عندما صدر البيان الأول عن عبور قواتنا المسلحة لقناة السويس وبدء حرب تحرير سيناء.
كان أبي يستمع دائمًا لنشرات الأخبار خصوصّا الساعة ٢ ونصف ظهرًا والساعة ٨ ونصف والساعة ١١ مساءً في البرنامج العام بالراديو ونشرة ٦ ونشرة تسعة على قناة ٥ وهي القناة الأولى في التليفزيون.
ارى ابي أمامي فأرى امتزاج الشعر والشاعر بالوطن وكأن الأحداث والأخبار والصراع مع الاستعمار جزء من دورة الدم في جسده ، حياته وحياة أسرته وشعره، الكل مرتبط بما يحدث في مصر وفلسطين. اهتمام حقيقي دون ادعاء. هو صادق في كل ما كتب. نفس داخل ونفس خارج يحمل أعذب النغم وأصدقه "باغني زي ما باتنفس".
بعد سبعة وستين كتب فؤاد "الأرض بتتكلم عربي" مبشرًا بقدرتنا على الرد على العدو. كانت هذه الاغنية جزءّا من قصيدة بنفس الاسم في ديوان "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة" الذي كتبه في سنة ١٩٦٩ في ألفية القاهرة. وكما قال هو في مقدمته عند نشره سنة ١٩٨١ "هذا الديوان كتب ردًا على النكسة".
يملأ قصائد هذا الديوان إيمان الشاعر بالإنسان المصري العربي ناظرًا الى النور ومشيرًا إلى قوته واصالته في تاريخنا من صلاح الدين الى عبد المنعم رياض مرورًا بالظاهر بيبرس وثورات القاهرة "النور ما يتحوطش بالحراس" ورفاعة الطهطاوي "وفكرك في بلادك يا ابن رافع / آناء الليل وأطراف النهار" وسيد درويش "ورفعت فني إلى مقام الشعب" والفلاحين والحمالين والتجار والفكهانية والخضرية والصنايعية الذين نقلهم سليم الاول الى اسطنبول وطومان باي قائلا لمصر "يا ام الشهيد حتى اللي مش ولدك" وأحمد عرابي الذي غنى له "من طلعة الفجر قومي/ يامصر يا عياشة/ واهدي رغيف العيش /لاحمد عرابي باشا/ أمير لواء الجيش" وثورة ١٩ والانسان المصري الذي يقول "الناس بتاكل بعض مش واكل" ونهر النيل الذي يغني "يالعروسة اللي بتغسل خلجاتها في خليجي" .
ديوان من أجمل ما كتب بالحروف العربية يبشر بنصر قادم يعيد للأمة روحها ويعدل كفة الميزان التي تميل ناحية العدو. لحنه وغناه سيد مكاوي كأجمل مايكون الغناء والتلحين
وغير هذا الديوان كتب ما بين هزيمة يونية الى انتصار أكتوبر شعرا واغاني كثيرة منها "ولا في قلبي ولا عينيا الا فلسطين" وكتب "في كل حي ولد عترة وصبية حنان" حيث يكبر الولد وينضم للدفاع عن الوطن "زمانه ماشي بخطوة يضم / زمانها كبرت وبقت أم" وكتب "ازرع كل الأرض مقاومة" وكتب في رثاء عبد الناصر "لازم تعيش المقاومة" وكتب عن شخصيات مصرية من اهل الفن والناس الحلوين مثل الريحاني والكسار وسيد درويش وبيرم ومختار وأم كلثوم وزكريا احمد واحمد شوقي والشيخ رفعت والشهداء والأبطال مثل مصطفى كامل والنديم وشهيد الثورة العرابية محمد عبيد "عظم شهيدك / كل دم يسيل / على أرض مصرية عظيم الجاه / قول كل حرف في اسمه واتهجاه".
ويقول بعد العدوان على عمال ابو زعبل و أهمية تذكر ما حدث:
"خليك على طول الزمن أخضر
وخلي قلبك عمره ما يسامح
نحمل قديمنا ونحمل الصابح
ونعيش على قدام .. ونتذكر"
وبعد العدوان على بحر البقر:
"محافظته الشرقية
ومدرسته : بحر البقر الابتدائية
وكراسته : مكتوب عليها السنة والاسم"
ثم يقول باكيًا:
" اديني قلبك ياللي تسمعني
لو شفت ابنك قبل منك شهيد"
ولا انسى المسحراتي في ١٩٦٨ الذي يقول في شحذ الهمم:
"لما تقول أجمل ما في الدنيا المية للعطشان
يعرفوك عربي
أما للراوي ريحة البرتقان في مداخل يافا
يعرفوك عربي
لما تقول ابني اتولد لاجئ
يعرفوك عربي
لما تقول يا رب
يعرفوك عربي
لما تباشر جهادك ، ترمي أوتادك ، في قلب دابح ولادك
يعرفوك عربي."
شاعر يحمل وطنًا في قلبه. وتاريخًا في ذاكرته. وعلى لسانه اجمل الكلام. ومشاركًا في المعركة بكل ما يملك من فن وإيمان .
يجلس ابي يوم ستة اكتوبر واضعًا أذنه التي يسمع بها الى جانب الراديو (حيث أن أذنه الأخرى لا يسمع بها) ويقول هو وأمي -رحمهما الله- "المرة دي شكلهم صادقين .. يا رب".
ويأتي سيد مكاوي الى بيتنا طالبا من ابي كتابة اغنية فيكتب ابي اغنيتين:
الأولى
" وطلعنا في شمس الضهرية
وسلاحنا يغني الحرية
والفجر اللي بيدن مصري
ومعاه القوة المصرية"
طلب منه الرقيب ان يغير كلمة "القوة المصرية" الى "القوة العربية" فرفض ابي قائلا "هنا اقصد القوة المصرية وانا اكتر واحد عارف امتى اقول مصر وامتى اقول العرب".
ضاعت هذه الأغنية مع الزمن بعد أن غناها فهد بلان في الإذاعة٠ وسمعت سيد مكاوي يقول انه لحنها وكأن الكورال يكيد العدو. ودق بقبضة يده اليمنى على بطن كفه اليسرى بحركة يلازمها خروج اللسان.
والاغنية الثانية هي مصر دايمًا مصر وغناها سبد مكاوي. وهذه اشتهرت وما زالت الاذاعة تذيعها في المناسبات القومية
"يا دعاء المؤمنين
فجر بينور سنين
يا أحن من الحنين
ام كل الإنسانية
تقسم اللقمة الهنية
العمل والرزق نية"
ويختمها:
"ام ابطالها البواسل
والأمل للفجر واصل
ينطلق يثبت يواصل
أم أولادها الملاح
في المعارك والسلاح
سينا يا حي الفلاح
مصر دايما مصر"
أحب ابي هذا اللحن جدا وكان يطرب لسماعه.
وعودة ليوم ستة اكتوبر جلسنا على مائدة الإفطار والراديو شغال كالعادة. وفوجئنا أن المسلسل الذي يذاع وقت الافطار قد تم وقفه واذيعت حلقة من "نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة" وسعدنا جميعا ونحن ناكل ونسمع صوت الشيخ سيد عاليًا يقول:
"يا مصر يا أمنا
واطلع في نور الأدان
إذا دعا الوالدان
للمدرسة
والميدان
الإنسانية هنا ".
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق