التحولات الدولية الراهنة تعكس مشهدًا بالغ التعقيد، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى في نقاط توتر متزامنة.
لم يعد من المستبعد أن تنفجر أكثر من جبهة في وقت واحد: إيران والشرق الأوسط، أوروبا عبر بحر البلطيق، والصين مع تايوان.
هذا التوازي لا يبدو وليد الصدفة، بل نتيجة حسابات دقيقة تقوم على مقايضات جيوسياسية كبرى بين واشنطن، موسكو وبكين، كل طرف يسعى من خلالها لانتزاع أكبر قدر من المكاسب وتقليص خسائره المحتملة.
الجبهة الأولى: الشرق الأوسط – تصفية الحساب مع إيران
منذ سنوات يشكل البرنامج النووي الإيراني محور التوتر الأساسي بين طهران وواشنطن.
اليوم، باتت المواقع النووية المحصنة، وفي مقدمتها موقع “جبل الفأس” جنوب نطنز، في صدارة بنك الأهداف الأمريكية.
تقارير استخباراتية حذرت من أن إيران قد تصل إلى إنتاج سلاح نووي بحلول ديسمبر، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى تكثيف مراقبتها الجوية والأقمار الصناعية، التي أظهرت نشاطات حفر وتحصينات إضافية في المواقع النووية، ما يعكس استعداد طهران لمواجهة عسكرية واسعة.
كانت إيران تعتمد سابقًا على شبكة تحالفات مع دول الجوار مثل باكستان وأرمينيا، لكن تبدل المواقف جعلها اليوم محاصرة من جميع الجهات تقريبًا.
من الشرق توجد باكستان، ومن الشمال أرمينيا وأذربيجان، ومن الغرب أفغانستان، وكلها لم تعد تقف بوجه الضغوط الأمريكية.
هذا الوضع يضع طهران في عزلة استراتيجية، ويمنح واشنطن مرونة أكبر في إدارة أي هجوم محتمل.
أي عملية عسكرية أمريكية قد تتخذ شكل هجمات مركبة ومتزامنة:
• ضربات جوية دقيقة لتعطيل البنية التحتية النووية.
• استهداف قيادات النظام عبر ضربات مركزة أو عمليات اغتيال لخلق فراغ سياسي.
• فتح جبهات حدودية في القوقاز أو أفغانستان لإشغال إيران وتشتيت قدراتها.
الهدف من هذا النهج هو منع طهران من الرد بشكل مباشر وواسع على إسرائيل أو القواعد الأمريكية في الخليج، وجعلها تواجه سلسلة أزمات متزامنة.
إيران قد تراهن على تحريك حلفائها في لبنان والعراق واليمن لخلق توازن ردع غير مباشر.
لكن هذا الخيار يحمل مخاطره، إذ قد يؤدي إلى تدخل إسرائيلي واسع وغارات مدمرة، إضافة إلى تفجير صراعات داخلية في تلك الدول.
بالتالي، فإن قدرة طهران على الاعتماد على حلفائها قد تكون محدودة في مواجهة تصعيد شامل.
روسيا، رغم تحالفها التكتيكي مع إيران، لا ترى مصلحة في امتلاك طهران سلاحًا نوويًا يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. لكنها في الوقت نفسه حريصة على عدم سقوط النظام الإيراني أو فقدانه لنفوذه الإقليمي الذي يشكل عنصر توازن مهم في الاستراتيجية الروسية بالشرق الأوسط.
هذا الموقف المزدوج قد يجعل موسكو لاعبًا متذبذبًا، يسعى إلى ضبط الإيقاع أكثر من الانخراط المباشر.
الجبهة الثانية: أوروبا – فخ البلطيق
في أوروبا، وتحديدًا في بحر البلطيق، تتزايد وتيرة التوتر بشكل يومي.
الطائرات المسيّرة الروسية لم تتوقف عن اختراق الأجواء، ما أجبر بولندا والدانمارك على إغلاق مجالهما الجوي في مناسبات متكررة.
السويد حذرت مواطنيها علنًا من احتمال اندلاع حرب، طالبة منهم تخزين المؤن والاستعداد لانقطاع الكهرباء والإنترنت. أما ليتوانيا، فقد ذهبت أبعد من ذلك عبر تدريب الأطفال على استخدام المسيّرات ضد روسيا، في مؤشر على حجم القلق الشعبي والسياسي من سيناريو مواجهة قريبة.
حلف شمال الأطلسي عزز وجوده العسكري بشكل كبير في المنطقة، بينما طالب ترامب بإسقاط المسيّرات الروسية وتبنى خطابًا داعمًا للرئيس الأوكراني زيلينسكي، مشددًا على قدرة كييف على استعادة كامل أراضيها.
لكن ألمانيا عبّرت عن تحفظها، محذرة من أن أي رد متسرع قد يجر الحلف إلى مواجهة مباشرة واسعة مع موسكو.
هذا الانقسام داخل الناتو يعكس التباين بين المقاربة الأمريكية الأكثر اندفاعًا والموقف الأوروبي الأكثر حذرًا.
هناك سيناريوهان محتملان لانطلاق شرارة المواجهة في أوروبا:
1. السيناريو الدانماركي: حيث قد تبدأ الاستفزازات من قواعد ومطارات حساسة، ما يمنح روسيا فرصة لفصل شمال أوروبا عن باقي القارة وقطع الإمدادات عبر بحر البلطيق.
2. السيناريو البولندي ـ الفنلندي: ويقوم على عزل دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا) ومحاصرتها جغرافيًا واستراتيجيًا، بما يجعلها نقاط ضعف يسهل استغلالها.
في كلا الحالتين، ستكون أوروبا أمام تحدٍ استراتيجي غير مسبوق منذ الحرب الباردة.
الجبهة الثالثة: الصين – تايوان في الانتظار
الصين تراقب المشهد عن كثب، مستعدة لاستغلال أي انشغال أمريكي في الشرق الأوسط وأوروبا.
تقارير متواترة تشير إلى أن روسيا تزود بكين بخبرات ومعدات متقدمة للإنزال البحري، وهو عنصر أساسي في أي عملية عسكرية ضد تايوان.
كما تجري القوات الروسية والصينية مناورات مشتركة قرب اليابان، في مواجهة مباشرة لتعزيزات أمريكية وفرنسية.
النشاط الصيني المتزايد في المحيطين الهادئ والهندي دفع الهند، الفلبين، واليابان إلى رفع جاهزيتها الدفاعية إلى أعلى مستوى. هذه الدول باتت تدرك أن أي تحرك صيني ضد تايوان سيترك انعكاسات إقليمية مباشرة قد تطال أمنها القومي.
تغير المناخ لعب دورًا في الحسابات الاستراتيجية فذوبان الجليد في القطب الشمالي أتاح للصين استخدام ممر ملاحي جديد بمحاذاة روسيا للوصول إلى أوروبا خلال ستة أيام فقط، متجاوزة الممرات التقليدية التي تسيطر عليها البحرية الأمريكية.
هذا التطور يقوض قدرة واشنطن على فرض حصار فعال، ويزيد من إصرارها على التحرك مبكرًا لقطع الطريق على شراكة روسية ـ صينية متينة.
العالم يقف اليوم أمام مثلث تصعيد يربط بين إيران والشرق الأوسط، أوروبا والبلطيق، والصين وتايوان.
هذه الجبهات الثلاث قد تظل محصورة ضمن أطر إقليمية، لكنها قد تتوسع لتتحول إلى شرارة حرب عالمية ثالثة. التوازنات القائمة هشة، والتحركات العسكرية والسياسية الجارية تكشف أن كل الأطراف تستعد للأسوأ. في مثل هذا السياق، لا يعود السؤال ما إذا كانت الحرب ستندلع، بل متى وكيف وأين ستكون البداية
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق