علي أبو هميلة يكتب : السيد الذي يأبى الغياب


هذا الرجل يأبي الغياب مهما مر عليه من الزمان حاضرا في غياب رغم كل الحملات التي شنت عليه من بعيد ومن قريب، وفي كل يوم لابد أن يأتي ذكر أسمه من المحبين ومن الذين يكرهون، يربطون كل ما يحدث به في مصر أو الأمة العربية أو العالم، فما من حدث إلا ويحمله الذين يعادون مشروعه مسؤوليته، أو يستدعي محبيه مواقفه في هذه الحدث، أنه الرجل الذي رحل منذ 55 عاما عشية يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970، أنه جمال عبد الناصر الذي لا تشرق شمس ولا تغرب إلا ويأتي ذكره على كل الألسنة من لا يزال يرى مشروعه هو مستقبل الأمة، ومن يرى أن كان سببا لكل مآسي الأمة، فلماذا يعصى جمال عبد الناصر على الغياب. 

أزمة الحضور 

بقدر ما يسعى كارهي عبد الناصر إلى غيابه فـأنهم بدون أن يشعروا يجعلونه أكثر حضورا، ربما كان شركاء عبد الناصر الحقيقيين أكثر سعيا إلى إيجاد بديل او من يستكمل مشواره ليكونوا حلقة جديدة في مشوار الوطن، وليس لتواري الرجل وإبعاده عن المشهد العام في مصر والأمة، بل للانتقال إلى مرحلة جديدة نحو أفق الأمة العربية ومستقبلها، ومع ذلك لا نزال في نفس الحلقة المتجددة دوما هي جمال عبد الناصر الزعيم، أو المنقلب على الديمقراطية الذهبية فيما قبل يوليو 1952، وبعيدا عن شراكتي لمشروع جمال عبد الناصر القومي المتجدد، ورغم مكانة الرجل التي تتأكد كل يوم في عقلي وقلبي إلأ انني أسعى إلى أيجاد حل لأزمة حضور الماضي في معارك المحبين والرافضين للرجل، أتسائل دائما لماذا هو حاضرا بهذه الكثافة في الأذهان والعقول والقلوب؟ لما تبقى صورة ناصر في بيوت الجماهير في صعيد مصر، وفي جنوب أفريقيا، وفي ميادين مريكا اللأتينية؟

أحاول إيجاد سر هذا الحضور، وبصدق أساعد من يحاولون إخفاء سيرته أو ذكره أن يحققوا أهدافهم، استولى هذه الأحساس علي منذ أكثر من شهر عندما أعيد  مقطع مصور لعمرو موسى وزير الخارجية المصري الأسبق، والأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق أيضا عن جمال عبد الناصر وديكتاتوريته، ولم أناقش موسى فيما قاله والذي أثار إعادة نشره بعد خمس سنوات من تصويره لأنني شغلت بهم آخر غير عاصفة  الدفاع عن ناصر أو الهجوم عليه، وجال بعقلي سؤال متى غاب جمال عبد الناصر؟ اي صورة أحتلت مكانه؟ ولماذا لم تصمد هذه الصورة؟ لماذا بقيت ذكريات يوم رحيله في وجدان أغلب رجال الأمة العربية؟

حاضر في وجدان الأمة

يقول صديقي فنان الكاميرا السوري أحمد البكار ونحن نعبر بين طرفي خليج القرم ومضيق البوسفور إلى حيث وقفة تضامنية مع المقاومة في غزة متذكرا يوم الرحيل بلا سبب حقيقي إلا العبور على مواقف تجاه المقاومة في غزة "يوم الرحيل صباحا كنا نتناول الأفطار، وكنا. نسمع الإذاعات العربية والإجنبية تذيع القرآن الكريم، وتساءل والدي واخواتي وهم كثيرون ماذا حدث؟ وفجاء جاء الخبر : وفاة جمال عبد الناصر، هل تعرف قام الجميع دون مأكل وخرج الجميع إلى الشوارع لنجد سوريا كلها في الشارع، وأضاف : هل تعرف أن جنازة لعبد الناصر خرجت في قريتي الرقة في سوريا" ترحم كلانا على الرجل وأمتدت الرحمة إلى رفاقه وبعض قادة العرب ليس بينهم رئيس مصري بعد جمال. 

تلك الصورة الحية لجمال عبد الناصر ستسمعها من أغلب العرب الذي ولدوا في سنوات عبد الناصر أو بعده بسنوات قليله، ونحن منهم الذين يقتربون من الستين خلال هذه الأعوام، فلما يطل جمال علينا كل صباح ومساء؟ الواقع أن السؤال الذي يجب أن نبحث له عن أجابة كيف يغيب جمال عبد الناصر عن الذاكرة؟ أحاول أن اساعد في الأجابة منذ واقعة عمرو موسى المستدعاة من الذاكرة. 

جمال عبد الناصر صاحب مشروع متعدد الجوانب والاتجاهات لذا في بعض الأحيان تغيب صورته ليحل محلها آخر مثلا في عام 2006 كانت صورة الشهيد السيد حسن نصر الله تملأ المنازل العربية وبخاصة في مصر أعتقد كانت صورة نصرالله بعد حرب المقاومة مع الكيان الصهيوني وتحرير الجنوب اللبناني متواجدة في أغلب المنازل المصرية، وربما جاورت صورة جمال عبد الناصر فترة من الزمن في ذلك العام، ولازلت أحتفظ بتلك الصورة في منزلي.

أعقاب طوفان الأقصى تصدرت صور المقاومين والقادة الشهداء صفحات أغلب جماهير الأمة، صارت صور يحيى السنوار، محمد الضيف، اسماعيل هنية، أبو عبيدة، وصالح العاروري، وشهداء المقاومة الفلسطينية، وقادة حزب الله الشهداء والأحياء تلازم صورهم القلوب وأيضا تلازم صورة جمال عبد الناصر في القلوب والعقول، فلماذا لم تبقى صورة نصرالله كثيرا في 2006، ولماذا لاتزيح صور كل قادة المقاومة الأبطال في فلسطين ولبنان صورة جمال عبد الناصر إلى الغياب. 

مشروع ناصر متكامل 

إذا أردنا أن نزيح عبد الناصر إلى الغياب وجعله شخصية من الماضي علينا أن نقدم ما يفوق مشروعه اجتماعيا، اقتصاديا،سياسيا، فإذا كان قادة المقاومة أخذوا جانبا من الصورة عندما قدموا أرواحهم لمقاومة المشروع الصهيوني الأمريكي فقد زاحموا ناصر في هذا الجانب وبالتالي في الصورة، وإذا كان ناصر مات بمؤامرة فهؤلاء كانوا شهداء الميدان فاستحقوا شراكته في الوجدان العربي، والإسلامي وربما عندما يكتمل تحرير فلسطين سيكون لهؤلاء مكانة في قلوبنا تفوق مكانة ناصر لأنهم حققوا الحلم العربي في التحرير، تحرير فلسطين والقدس، ودولة فلسطين من النهر إلى البحر. 

إذا كنتم تريدون أخفاء صورة عبد الناصر إلى زوايا التاريخ وهي مهمة شاقة، إذن لابد أن يكون هناك مشروع عدالة اجتماعية يفوق ما حققه جمال عبد الناصر في الإصلاح الزراعي وعدالة توزيع الأرض وزيادة رقعة الزراعة كما حدث، ودعم الفلاح والجمعيات التعاونية، وبنوك الدعم الزراعي، خريطة تعليمية كبيرة يستطيع كل أبناء الشعب المصري والشعوب العربية أن يتعلموا بدعم كامل من الدولة، فلا يذكر أحد أنه تعلم ووصل إلى الجامعة بلا متاعب لوالده الفقير ومعه خمس أو تسع أشقاء، خريطة تصنيع كبيرة وضخمة ومتسعة في كل أرجاء الوطن، معاهد وأكاديميات تتاح لكل أبناء الشعب فقراء وأغنياء، وظائف ليست حكرا على أحد، لا تفرق بين سوري (كان لؤي زميلي في ماسبيرو سوريا) فلسطيني، أي عربي كان يشعر أن مصر عبد الناصر هي وطنه تعليما وثقافة وحتى في الوظائف. 

 هيا بنا نزيح ناصر إلى الغياب 

إذا كنتم تريدن محو صورة عبد الناصر من قلوبنا فليكن القرار المصري مصريا، والعربي عربيا ليس وليد بلدان آخرى لا يهمها إلا تدميرنا، ليكن القرار المصري، أو في أي قطر عربي مستقلا لا يخضع لأحد هنا أو هناك، لتكن مواقفكم شبيهه بمواقف أمريكا اللاتينية أو رئيس كولومبيا، ليكن موافقكم حاسمة حادة تخرج من قلب الجماهير العربية، لا تخضعوا لأحد، ولأي قوة إلأ شعوبكم، وأعلموا أن رضا الأعداء عنكم معناه أنكم لستم في جانب شعوبكم، ولتكن فلسطين قبلتكم. 

أن مهمة خلافة جمال عبد الناصر التي نكتشف كل يوم جدراتها ليست سهلة ليس عليكم أن تهاجموا جمال أو تقذفوه بكل السباب، بل عليكم أن تقدموا في كل مجال سعى وقدم فيه جمال جزءا من مشروعه ما يفوق أنجازه، حينها فقط لن تجدوا الجماهير المصرية والعربية تتذكره، بل يصبح شخصية من التاريخ كعمر بن عبد العزيز، وسيف الدين قظر، والظاهر بيبرس، صلاح الدين الأيوبي، محمد علي، أحمد عرابي، يحيى السنوار، حسن نصرالله، بعد ذلك لن تجتهدوا كثيرا وتتعبوا من أجل أن تزيحوا ناصر إلى الغياب، مهمتكم صعبة لرجل يأبي أن يغيب لأن مشروعه يعجز الجميع. 

المصدر : الجزيرة مباشر نت 

تعليقات