عندما تولى السادات مقاليد الحكم بعد وفاه عبد الناصر، ذكر في اول خطاباته هذه الجملة الشهيرة: "انا همشي على خط عبد الناصر"، لكن الشعب المصري بفهمه لطبيعة السادات، وبروح هذا الشعب الساخرة التي ينتصر بها دائما في معركته مع الحاكم الذي لا يحب، كرر الجملة ولكن أضاف اليها كلمه واحده "همشي على خط عبد الناصر (بأستيكة)"..
وهذا ما فعله السادات منذ اليوم الاول لتوليه السلطة، ولسنا هنا في معرض تعديد وحصر خطواته على طريق التراجع عن كل انجازات عبد الناصر، سواء منها الوطنية التحررية، او تلك التي يمكن ان نطلق عليها الانجازات الاجتماعية والاقتصادية، فجميعنا عاش هذه الفترة ومن لم يعيشها من الاجيال التأليه يلمس بنفسه نتائج سياسات السادات من الاستسلام للعدو الصهيوني وسرقة نتائج حرب اكتوبر التي خاضها الجيش المصري العظيم بجنده وضباطه، وصولا الى ما سمي وقتها بالانفتاح الاقتصادي، وما اطلق عليه "الديمقراطية" بإتاحة تكوين المنابر السياسية..
قصه القرود والموز
يقال إن مجموعة من العلماء وضعوا خمسة قرود في قفص واحد، وفي وسط القفص يوجد سلم، وفي أعلى السلم هناك بعض الموز، في كل مرة يتسلق أحد القرود لأخذ الموز يرش العلماء باقي القرود بالماء البارد، بعد فترة بسيطة أصبح كل قرد يتسلق لأخذ الموز يقوم الباقون بمنعه وضربه حتى لا يُرشون بالماء البارد، بعد مدة من الوقت لم يجرؤ أي قرد على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الإغراءات خوفا من الضرب..
بعدها قرر العلماء أن يقوموا بتبديل أحد القرود الخمسة ويضعوا مكانه قردا جديدا، فكان أول ما قام به القرد الجديد أنه صعد السلم ليأخذ الموز..
ولكن فورا قام الأربعة الباقون بضربه وأجبروه على النزول..
بعد عدة مرات من الضرب فهم القرد الجديد أن عليه ألا يصعد السلم مع أنه لا يدري ما السبب!
قام العلماء أيضا بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد وحل به ما حل بالقرد البديل الأول حتى أن القرد البديل الأول، شارك زملاءه بالضرب وهو لا يدري لماذا يضرب!
تحمل هذه القصة (التجربة) من الدلالات ما سيعيننا على فهم هذه الاطروحة حول انهيار النسق القيمي فتره حكم السادات، ذلك الانهيار الذي امتد حتى يومنا هذا ولم نعد ندرك ما الذي حل بهذا الشعب لينقلب نسقه القيمي على هذه الشاكلة التي نعاني منها جميعا حتى يومنا هذا..
وسوف اقسم اطروحتي حول هذا الموضوع الى اجزاء حتى يسهل العرض والتلقي في ذات الآن:
أولا، قبل السادات كان هناك شعار نتبناه جميعا "العمل حق، العمل واجب، العمل حياه"، وكان هذا الشعار متمثلا في سلوكنا اليومي جميعا (نحن من عشنا تلك الفترة)، فكان سوادنا الأعظم يؤدون اعمالهم بإتقان وكما يجب ان يكون عليه الامر، كان العمل هو القيمة الأسمى لدى الجميع، كان العمل قيمه في حد ذاته ينظم حياتنا..
كنا نقتات ونعيش ونسكن ونتزوج ونربي ابناءنا ونعلمهم ونداويهم من كد عملنا وما تقدمه الدولة لنا من خدمات..
عندما قفز السادات الى كرسي الحكم ــ ومسألة قفزه هذا وما يحيطه من ملابسات تحتاج الى مقال مستقل ــ اقول عندما تولى السادات بدأ يردد في خطاباته ما معناه: "اللي معاه جنيه يساوي جنيه"، و"اللي مش هيتغني في عصري مش هيتغني ابدا"..
وبدأت سياسه الانفتاح بما تحمله وتعنيه من قيم جديده فاسده ومفسده، افسدت الناس والمجتمع والاقتصاد على حد سواء، ومهدت الطريق لخلق طبقه تقبل الاستسلام، وتروج له فيما بعد، وبدأت تنتقل هذه القيم رويدًا رويدًا وتغوص داخل المجتمع حتى أصبحت قيم النهب والفساد بديلا عن الكسب من كد أيدينا، واصبحت مقولة "يلا نفسي، وانا ومن بعدي الطوفان" هي السائدة في المجتمع، حدث هذا بشكل متسارع وبدأت تظهر اثاره التي امتدت الى يومنا، وفعلت بنا ما فعلته قصه القرود والموز في نسيج المجتمع برمته، ولم ينج من هذا إلا القليل القليل، أولئك الذين اصبحوا لا يمثلون النمط السائد في المجتمع..
ثانيا، بعد هزيمه 67 استعانت القوات المسلحة في تجنيدها بخريجي الجامعات من التخصصات المختلفة، تلك الفئه التي تمثل المتعلمين في المجتمع وزبدته اذا جاز القول، هؤلاء المجندون باتوا في الرمال وفي الخنادق على جبهه القتال حتى عام 73، لما يربو عن ست سنوات ودٌعوا فيها حياتهم المدنية ومستقبلهم، ولم يعيشوا افضل سنين عمرهم مع احبائهم واصدقائهم، وعندما قامت حرب اكتوبر 73 وخرج هؤلاء الى الحياه العامة المدنية اكتشفوا ــ ولهول ما اكتشفوا ــ انهم لم يجنوا نتيجة النصر الذي ضحوا من أجله، بل جناه هؤلاء الطفيليون من الكمبرادور ومشايعي النظام..
وكان من نتيجة ذلك ان انتشرت روح اللامبالاة وعدم اليقين بينهم ــ هم واهليهم واصدقائهم ــ وأصبح ما تقدمه للوطن من تضحيات لا نتيجة ملموسه له، ومن يجني هذه النتيجة غيرنا ــ غيرهم ــ حينها اهتزت القيم بفعل ذلك، ولم يعد التضحية من اجل الوطن تؤتي بالنتائج المرجوة، فنتاج تضحيتك تذهب لغيرك، فلم التضحية اصلا ومن أساسه، هذا شعور ساد وتسلل الى وجدان الشباب على مر الزمن نتيجة لما عاناه هؤلاء الشباب من غبن وانكار لتضحياتهم..
كما لعب الاستسلام للعدو الصهيوني، وما تلاه من "معاهدة كامب ديفد" سيئة السمعة والنتائج، دورا في جعل أرواح الشهداء ــ ممن زاملوا هؤلاء الجنود والضباط ــ تتبخر في الهواء امام اعينهم، مما ساهم في تكريس شعور اللاجدوى وعدم اليقين، وانعكس بشكل سلبي على مجمل النسق القيمي بالمجتمع..
ثالثا، مما هو معروف ان السادات، بالتعاون مع محمد عثمان (الذي كان محافظا لأسيوط فتره من الزمن)، وكمال ادهم (مدير المخابرات السعودية التي كان على علاقه وثيقه بالمخابرات المركزية الأمريكية، ويقال انه جند السداد لصالحها)، اتفق الثلاثة على خطه لإحلال الجماعات الإسلامية بالجامعات المصرية محل اليسار من ماركسيين وناصريين، والذين كانوا يسببون ازعاجا شديدا للسادات الى الحد الذي يقال انهم سيطروا على الحركة السياسية بالجامعات المصرية، وكان من نتاج هذه الخطة ان اطلقت يد الجماعات الإسلامية، وترك الحبل على الغارب للإخوان المسلمين، بغرض تغيير المناخ العام الى مناخ ديني شكلا.. أضف الى ذلك هجره المصريين الى الخليج وفي القلب منه المملكة العربية السعودية، وعودة هؤلاء بأفكار الوهابية الدينية، وتقاليد وأعراف الصحراء والقبلية..
كل هذا ساهم واسس لسيادة المناخ القيمي الذي ما زلنا نعاني منه حتى الان.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق