معتز منصور يكتب : "رأفت الهجان" حين يتحوّل الماضي إلى مرساة نفسية


في بيوتٍ كثيرة، ستجد شخصًا لا يزال يعيش في زمن آخر.

تفتح التلفاز فتراه جالسًا بتركيز مدهش، يشاهد مسلسلًا شاهده عشرات المرات من قبل. يعرف المشهد المقبل، ويتنبأ بالجملة التالية، لكنه يتابع كأنها المرة الأولى. لا يبحث عن التشويق، بل عن الطمأنينة. ربما يكون هذا الشخص أبًا أو عمًا أو جدًا، يجد في المسلسل القديم ملاذًا من ضجيج العالم الجديد. هذه الحالة ليست مجرد حنين بسيط للماضي، بل ظاهرة نفسية أعمق تُعرف في علم النفس بما يمكن تسميته «التعلق الرمزي بالماضي».

الأب الذي يُصرّ على مشاهدة رأفت الهجان لا يرتبط بالمسلسل بوصفه عملاً دراميًا فحسب، بل بما يُجسّده من معانٍ كبرى: البطولة، الانتماء، الوضوح الأخلاقي، والانتصار على العدو.

هذه القيم لم تعد متاحة في الواقع المعيش كما كانت في زمن المسلسل، لذلك يتحوّل البطل إلى رمز تعويضي. المشاهدة المتكررة تُعيد إلى الشخص إحساسه بالثبات والسيطرة، وتمنحه توازناً داخلياً في عالمٍ يزداد اضطرابًا وتعقيدًا.

في علم النفس التحليلي، يطلق على ذلك الارتباط الرمزي (Symbolic Attachment)، أي تعلق الإنسان برمزٍ ثابتٍ يمدّه بالمعنى، خصوصًا عندما تتصدع القيم المحيطة به. هنا يصبح البطل الخيالي بديلاً عن الواقع الذي فقد وضوحه.

يُفرّق علماء النفس بين نوعين من الحنين:

الحنين الوجداني الطبيعي، الذي يحمل في طيّاته دفئًا وتذكّرًا جميلاً، والحنين الدفاعي، الذي يُستخدم كآلية هروب من القلق.

حين يجد الإنسان نفسه في زمنٍ سريع، غامض القيم، متغير الوجوه، يلجأ إلى الماضي كمنطقة آمنة نفسياً.

في الماضي، كل شيء كان محددًا: من هو البطل؟ من هو العدو؟ ما معنى النصر؟

أما الحاضر فمائعٌ، مُرهق، بلا حوافّ واضحة. لذلك يُعيد العقل تشكيل ملجأ ذهني اسمه “زمن اليقين”.

في هذا السياق، يتحول المسلسل أو الأغنية أو الحدث القديم إلى كبسولة زمنية مضادة للقلق.

المشاهد الذي يعيد رأفت الهجان لا يهرب من الواقع فحسب، بل يعيد ترميم ذاته المتصدعة أمام صخب العالم الرقمي وانهيار الرموز الكبرى.

هناك ما هو أعمق من الحنين، وهو ما يُسمّيه التحليل النفسي بـ “التثبيت الزمني” (Temporal Fixation).

في هذه الحالة، يتوقف وعي الإنسان عند حقبة معينة من حياته أو من تاريخ بلاده.

يظل يعيشها كأنها مستمرة، يقيّم كل شيء بمعاييرها، ويتعامل مع الحاضر باعتباره انحرافًا عنها.

هذا التجميد ليس غباءً أو سذاجة، بل هو آلية دفاع غير واعية ضد الشعور بالفقد.

فقد القيم، وفقد الإيمان بالبطولة، وفقد الإحساس بأن الحياة مفهومة ومنطقية.

التمسك برأفت الهجان هو طريقة غير مباشرة ليقول الإنسان لنفسه:

“ما زال هناك خير، ما زالت البطولة ممكنة، ما زال الوطن له معنى.”

جيل الآباء في العالم العربي عاش تقلباتٍ عنيفة: من الأحلام القومية إلى الانكسارات، من الصلابة الأيديولوجية إلى السيولة الرقمية.

وحين تبددت الشعارات الكبرى، لم يبقَ إلا الرموز الفنية التي حملت صورة “الوطن الشريف”، و“الرجل الصادق”، و“المعركة النبيلة”.

تلك الرموز أصبحت بمثابة بيوتٍ روحية يعودون إليها في المساء، ليجدوا فيها ما فقدوه في النهار: الإحساس بالكرامة والمعنى.

لهذا، لا يمكن وصف الظاهرة بأنها هروب من الواقع فقط، بل أيضًا محاولة للبقاء النفسي وسط واقعٍ لا يُطاق.

هي نوع من المقاومة الصامتة ضد العدمية الحديثة.

الابن الذي يرى أباه غارقًا في هذا الطقس المتكرر، لا يرى مجرد مشاهد مُسنّ، بل إنسانًا يخوض معركة بطريقته الخاصة.

هو لا يعيش في “كومفرت زون” كما يبدو، بل في صراع نبيل مع الفناء:

صراع ليُبقي في نفسه شيئًا من اليقين، من الوضوح، من الحلم.

ولذلك، فالمشاهدة ليست هروبًا من الحياة بل نوعًا من الدفاع عن جوهرها، دفاعًا بدائيًا لكنه شريف.

العصر الرقمي، بما فيه من تدفقٍ لا نهائي للمعلومات، كسر التتابع الطبيعي للزمن.

كل شيء يحدث الآن، في اللحظة ذاتها، بلا تسلسل ولا سياق.

الإنسان لم يُصمَّم نفسيًا ليتعامل مع هذا الكمّ من “الآن”.

ولذلك يبحث العقل عن زمنٍ يمكن الإمساك به، عن مشهدٍ مستقر وسط الفوضى.

رأفت الهجان، بالنسبة لهذا الأب، ليس فقط بطلًا وطنيًا، بل لحظة زمنية يمكن الوثوق بها.

من السهل السخرية من أولئك الذين يعيشون في الماضي، لكن الأصعب هو فهم السبب الذي يجعل الماضي أرحم من الحاضر.

الحنين، في جوهره، ليس رغبة في العودة، بل رغبة في الاتزان.

الإنسان الحاضر في زمنٍ بلا قيم يعود إلى زمنٍ كانت القيم فيه واضحة، لا ليهرب، بل ليذكّر نفسه أنه كان — ذات يوم — مؤمنًا بشيء.


ربما لهذا حين جلس الأب أمام الموبايل يشاهد رأفت الهجان بعد أن تعطل التلفاز، لم يكن فقط يُعيد مشهدًا مألوفًا، بل كان يحافظ على آخر خيط يربطه بنفسه القديمة.

في تلك اللحظة، لم يكن الماضي ترفًا، بل كان ضرورة وجودية.

تعليقات