عبده فايد يكتب : عن المتحف المصري


ممكن الواحد يكتب عبارات كبيرة منمقة عن المتحف المصري الكبير..وكلها هتكون صح

إنه على مساحة 300 ألف متر مربع، وهو أكبر متحف لحضارة واحدة في العالم، وموقعه أسطوري إلى جوار الأهرامات الثلاثة..وهتكون معلومات مهمة أكيد..لكن بالنسبة لي مجرد نشرة تاريخية لن تشعرني بأي انتماء للمكان، لأن أنا نفس الشخص اللي كان بياخد في المدرسة من وهو صغير إن مصر هي أكبر متحف مفتوح في العالم، وتحتوي على ثلثي آثار الكون، وإن عندنا واحدة من عجائب الدنيا السبعة..

وهو نفس الشخص اللي كان بيصدّق كلام كتب الحكومة، وبتصدم صدمة عمره لما يروح يزور تراث أجداده..عشوائية لدرجة أن الخيرتية في الأهرامات سنة 2014 كانوا بيجروا ورا الواحد بالكاريتات عشان خمسين جنيه في منظر مفزع..وفوضى لدرجة أني ألاقي طفل داخل مع أهله بمفك جوه حرم الأهرامات وبينحت فيها اسمه..ومقرفة بمعنى الكلمة لدرجة إنك فعلًا ممكن تشم روائح لا تقربها أنفك إلا إذا اقتربت من محطات الصرف الصحي..

كان أي شخص بعد زيارة للأماكن الأثرية المصرية يقولي يالا نروح على طول الجواب رفض..صديق مصري أو أجنبي أو حتى عائلتي..لأ..وده اللي خلاني أرفض زيارة المتحف المصري الكبير خمسين مرة من أول افتتاحه التجريبي..وبعد ضغط اضطريت أروح..وقولت هو مشوار وهترجع مش طايق نفسك ولا البلد ولا اللي فيها..واحنا في عز الحر والصيف وهتلاقي الموظف بيقولك التكييف بايظ، ونص ساعة وهمشي، وكل ما توقعته طلع خطأ..

المتحف مبهر، وعظيم لدرجة مدهشة كل شيء سلس من أول قطع التذكرة، لغاية جولف كار بتوصلك لباب المتحف، لغاية التقاط الصور الذي تم دون وجود موظف يقولك التصوير هنا بفلوس، ويا إلهي لما دخلت المتحف عملاق المُصمّم راعي شيء أساسي في هندسة المتحف..العملقة التي تليق بما تقف أمامه نسبة جسم الواحد لطول وعرض المتحف تشعره بشيء واحد فقط..الضآلة..وأعتقد أنه شيء مقصود عشان أي زائر أجنبي تحديدًا يشعر أنه مهما كان ومهما بلغ من مكانة يظل أمام قدماء المصريين ضئيًلا..كانت أول مرة أشوف تمثال رمسيس من هذا القرب..ولا يصدق المرء أن هذا التمثال منذ ألوف السنين، انحناء الركبة وتفاصيل الجسد وكأنه هينطق من مكانه..

الجولة في المتحف عظيمة..أنا نفسي اندهشت إن مساحة  السلالم لغاية ما تطلع فوق هو 6000 متر..وارتفاعها 6 طوابق كاملة..لسه عارف المعلومة قريب أنا طلعت السلالم كلها، وكل درجة عليها تمثال يشرح قصة وحكاية، ولما الواحد يحب يرتاح هناك أماكن مخصصة ولما تقعد في مكان خطأ..يجي موظف بصورة بشوشة يطلب منك الجلوس في المكان الصح من غير تكشير ولوي بوز وصيغة أوامر..لغاية ما وصلت المكان البانورامي الذي ترى فيه الأهرامات من الزجاج..وده مشهد للتاريخ والزمن والذكرى..هتفضل قصاده متسمر وقت مش قليل..مفيش، مستحيل، يكون في مكان أفضل من ذلك في المليون كم مربع مساحة المحروسة..والمدهش أن الواحد مشي كل تلك المساحة دون أن يشعر بلحظة ملل، ولا تعب ولا يحس بالمسافة..لأن فعلًا كل خطوة بقصّة..

أنا اللي كنت متخيل إن كلها نصف ساعة وهطفش..لقيتني قعدت خمس ساعات ونفسي أكمل قدهم بس الوقت مكنش يسمح..وأنا اللي يُقال عنه عمره ما عجبه العجب ولا الصيام في رجب..خرج من المتحف يكلم كل حد يعرفه من أقربائه ويقوله لازم تيجي..وأنا اللي كنت بنصح صحابي الأجانب بتجنب زيارة القاهرة إلا للضرورة القصوى والذهاب للبحر الأحمر بدلا منها، لقيتني جايب إثنين صحابي أجانب على ضمانتي عشان يزوروا المتحف، والإثنين لفوا متاحف أوروبا وأميركا وخرجوا بانطباع أن المتحف المصري الجديد هو الأفضل..

كانت زيارة المتحف هي الأفضل في حياتي..لا لشيء إلا لأنك لأول مرة تحس أن مصر ممكن تشيد مبنى عملاق وتعرف تعامل الناس فيه بمنتهى الآدمية..إن أصلًا تصميم المبنى يكون مراعي البشر واحتياجاتهم واختلاف أعمارهم وراحتهم..غير ما يحتويه من كم آثار عملاق..لكن التجربة في مصر علمتني كويس إن ممكن يكون عندك أجمل شيء في الكون ويفسده سوء الإدارة..المتحف هو أول مكان في مصر يقدم التجربة كاملة بصورة مدهشة..منتج حضاري معروض بشكل خلاب، وزائر يحظى بأفضل معاملة ممكنة..ويمكن تلك تكون من المرات النادرة جدًا إن الواحد يشعر بالفخر كونه مصري، ليس لتراث الأجداد، بل لأن الحاضرين يقدروا يعملوا شيء يضاهي جزء يسير من عظمة الماضي..

كل حاجة في مصر الواحد يتمنى تطويرها..إلا المتحف المصري الكبير..يارب يفضل على حاله، لا تقربه يد الإهمال..لأنه فعلًا إضافة لتاريخ مصر..ومع الأمنيات أمنية إضافية إن سعر التذكرة يقل عن 200 جنيه للفرد..وإن زيارة المتحف تكون متاحة لأكبر عدد ممكن من المصريين اللي ميقدروش يتحملوا 1000 جنيه في زيارة الأسرة..وده مالوش علاقة بالمكسب ولا تشغيل المتحف..ومينفعش تتحسب بالربح والخسارة..هذا أمر له علاقة بالناس اللي فعلًا هيحسوا بفخر شديد وثقة بنفسهم لما يدخلوا المكان ده مشاعر مهما حاولت الدولة تغرسها، مش هتنجح لا بكلام ولا دعاية ولا احتفالات..ساعة في المتحف هي اللي هتعمل ده في نفوس الناس وزيادة..

مصر عظيمة فعلًا، بلد مدهش بكل تفاصيله..ومهما كانت صورة المتحف براقة والدعاية مدهشة والاحتفالات عملاقة..كلها أقل مليون مرة من الواقع الحقيقي..كلها لا تعادل دقيقة واحدة في المتحف..دقيقة سوف تعيد لك ثقة فقدتها في نفسك، كمصري، على مر سنوات، بل ربما على مدار عمرك..عسى أن يأتي اليوم الذي نضيف فيه لمن سبقونا، ونترك ما يخلدونه في متاحف، كما خلدنا تراث السالفين..وإلى حينه..هذا يوم للفخر، هذا يوم المتحف الأعظم في تاريخ الإنسانية.

تعليقات