علي أبو هميلة يكتب: قاهرة يوسف شاهين وفرح الهاشم تحت مقص الرقيب


للقاهرة المصرية سحرها الملهم لكل فنان في جميع أشال الفنون ما بين التشكيلي، الموسيقي، الشاعر، الأديب، مصور الفوتوغرافيا، والمصور السينمائي، والمخرج، وعندما يمزج المخرج السينمائي، والتليفزيوني حبه للقاهرة بكتابته تخرج سيمفونية قاهرية لا تتشابه مع أي سيمفونية أخرى، قد تجد في المدن القديمة في العالم العربي، والإسلامي كدمشق، بغداد، بيروت، وإسطنبول بعضا من ملامح تلك اللوحة التشكيلية المبهرة للقاهرة، ولكن تظل القاهرة متفردة بتنوعها، عشوائيتها المدنية، الفكرية، والثقافية تجعل لها مذاق خاص لا يضاهى، ونكهة فريدة لا تماثلها نكهات أخرى، فهي القاهرة التي يصفها المبدع المصري سيد حجاب :

هنا القاهرة 

صدى الهمس في الزحمة والشوشرة

أسى الحب في اللمة والنتورة 

هنا الحب والكذب والمنظرة 

نشا الغش في الوش والأفترا 

هنا القرش والرش والقش والسمسرة 

هنا الحب والحق والرحمة والمغفرة 

لا يخرج أي عمل فني عن القاهرة من تلك الأبيات القليلة لسيد حجاب من قصيدته الطويلة (هنا القاهرة) فالجميع يدور في أفق هذه التركيبة الفريدة التي أبدعها حجاب في أبيات قليلة استكملها في قصيدته. 

رقابة المصنفات لا تقبل القاهرة 

لا أدرى سر العداء التي تكنه الرقابة على المصنفات الفنية في كل عهودها تجاه السينمائيين الذي يحاولون تقديم رؤيتهم للمدينة الكبيرة التي تحوى عشرات الملايين من المصريين بتنوعها الفريد والعجيب، ومجتمعاتها المتنوعة، فالقاهرة ليست مدينة داخل وطن واحد، بل عدة مدن داخل أوطان متعددة ولكنها تحتوى كل المدن، والأوطان لتصبح قلب مصر، وقلب الأمة العربية، لذا فتنوعها يشكل وجهات نظر كثيرة ومتنوعة، ولكن كل الأعمال، الأفكار، وجهات النظر تجتمع في حب المدينة الساحرة الساهرة القاهرة. 

الرقابة على المصنفات بدات عدائها لسينما القاهرة مع ظهور جيل الثمانينات في السينما المصرية وسواء كان الرقيب حمدي سرور أو مدكور ثابت وحتى عبد الرحيم كمال فالكل يقف عند أي موضوع عن القاهرة وخاصة الأفلام التسجيلية ولو كان مبدعها يوسف شاهين موقف غريب وهو الرفض، أتهموا بعض مخرج الثمانينات بالإساءة لسمعة مصر عندما تناولوا القاهرة في أفلامهم، وهو ما حدث أخيرا لفيلم السينمائية الكويتية فرح الهاشم (هرتلة في القاهرة) التي اضطرت مخرجته إلى عرضه على منصة اليوتيوب لعدة أسابيع، ونشرت رابط الفيلم على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد رفضته الرقابة على المصنفات الفنية عن طريق أحد موظفيها الفيلم، ويبدو أن كلمة الإساءة لصورة مصر كان المبرر لإعاقة نشر الفيلم وتعطيله على يوتيوب، قبل أن يتدخل عبد الرحيم كمال المبدع الدرامي ورئيس الرقابة ليثني على الفيلم وإبداعه. 

أعادت إعاقة فيلم فرح الهاشم هرتلة في القاهرة إلى الإذهان ما حدث مع فيلم يوسف شاهين القاهرة منورة بأهلها إنتاج التليفزيون الفرنسي بالاشترك مع شركة شاهين عام 1991، حين أتهم شاهين بالإساءة لسمعة مصر في الفيلم، خاصة أن الفيلم عرض في التليفزيون الفرنسي، ومهرجان كان قبل عرضه في القاهرة، ورغم أن شاهين أعلن أن الفيلم قصيدة في حب القاهرة إلا أن الفيلم قوبل بهجوم كبير من الصحافة المصرية وبعض النقاد. 

عشوائية القاهرة سر البقاء 

مشتركات عديدة بين فيلم شاهين 1991 القاهرة منورة بأهلها الذي كتبه وأخرجه ومثل فيه يوسف شاهين مع مجموعة من الممثلين الذي أرتبط بهم في تلك الفترة أمثال خالد يوسف، خالد النبوي، باسم سمرة، سناء يونس، حسن العدل، وهو فيلم يجمع بين الروائي والدرامي، وفيلم هرتلة في القاهرة للمخرجة والمصورة والكاتبة الكويتية فرح الهاشم التي عاشت طفولتها في القاهرة، أهم مشترك في الفيلمين هو حالة الحب التي تشع في العملين، لكن كلا بطريقته الخاصة. 

شاهين يغوص في أعماق القاهرة العشوائية والفقيرة ليقدم وجوه مصرية غارقة في أزمات اقتصادية -مشكلة أوائل التسعينات- ولكنها وجوه تشع حب، ودفء ومغفرة ورحمة كما يصفها سيد حجاب، بينما تتجول كاميرا فرح الهاشم بين جماليات القاهرة، وميادينها، وترواح بينها وبين عشوائيتها، شاهين يغرق في تفاصيل أزمات القاهرة الاقتصاد، العشوائيات، تأكل الأراضي الزراعية، البناء الجديد وأسعاره، التطرف، وحرب الخليج الأولى 1991، وتظاهرات الجامعات المصرية ضد الحرب على العراق، وفرح الهاشم ترصد أزمات ما بعد 14 عاما من ثورة يناير، الأزمة الاقتصادية التشتت العربي، العلاقة بين الماضي السعيد ـكما تقول- في الستينات والسبعينات وما قبله، والواقع الآن، في مرثية تشع حب لجماليات القاهرة وترائها المعماري. 

أبطال يوسف شاهين هم ممثلين مصريين قدم كل منهم مشهد أو أثنان، ماعدا شاهين وخالد يوسف، بينما أبطال هرتلة فرح الهاشم أصدقاءها، كتاب، مثقفين، شخصيات من الواقع، وتترواح كاميرا وتصوير فرح بين ماضي يصاحبه موسيقى وأغنيات قديمة، الشيخ أمام، سيد درويش، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، نازك، وفرقة مزاهر التي تقدم تواشيح الآن، تشع رائحة حنين الماضي في فيلم فرح الهاشم لدرجة أنها استخدمت خدعة العودة إلى الواء في المونتاج كما استخدمت الابيض والأسود في لقطات متعددة، يغوص يوسف شاهين في الواقع دون هذا الحنين بل يغرق في تفاصيل الواقع ليعكس مأساته ويصدم به الجمهور والجميع، ويصاحب فيلم شاهين موسيقى عشوائية شاعت في تلك الفترة. 

الواقع أن بين وجوه شاهين المصرية المنحوتة مثل عمال التراحيل وأهالي الحارات المصرية والباعة الجائلين، تشع بهجة وقدرة على الحياة، تلك الوجوة التي تحمل سر بقاء القاهرة، تلك الوجوة كانت عماد فيلم شاهين، وجاءت عابرة في فيلم فرح الهاشم ولكنها أوحت بسر بقاء القاهرة، مثل تلك العشوائية بين قاهرة وسط المدينة، والعتبة وأمبابة، وحارة كوم الدكة في الأسكندرية حيث استعرضت حالة منزل سيد درويش بعد هدمه وتبعثر تراثه. 

لماذا تتعسف الرقابة؟ 

شاهدت فيلم شاهين مرة أخرى وفيلم فرح الهاشم مرة أخرى، وتساءلت كثيرا عن السبب الذي جعل موظف الرقابة يعترض على الفيلمين قلت ربما كان في عشوائية أبطال فيلم شاهين سببا له، تلك المشاهد التي بينت معاناة المصريين في المعيشة خاصة في الحارات المصرية الضيقة، المشاهد التي عكست أهمال نظام لهؤلاء المجهولين، هيمنة التسليع لكل شيء وهيمنة التطرف على الصورة، شاهين أراد أن يصرخ في وقت ما المجتمع يتفسخ أنقذوه، وربما رأى موظف الرقابة حينها أن الفيلم يقدم صورة لا يتمنى عرضها على الشاشة، الفكرة ذكرتني ببرنامج تليفزيوني قدمته في 1997 بعنوان (تماسي شعبية) كتبه الصحفي والشاعر المصري الراحل عزازي على عزازي، وكان يقدم حياة تلك الوجوه المصرية من أصحاب المهن الشعبية القهوجي، العطار، الفران، النجار وغيرهم، فوجئت بإيقاف العمل لانه يسيء لمصر والسبب هو ظهور فران وزوجته في البرنامج وقد غطى دقيق الخبز ملابسهم، يومها قالت رئيس القناة "إذهب إلى أفران منطقة الزمالك ووسط البلد" 

فيلم هرتلة في القاهرة اعتقد أن اسباب عرقلته سياسية رغم تنويعة الحب العربية في الفيلم سواء من مخرجته والكاتبة التي صاحبت المشاهد في رحلتها، أو من ضيوفها خاصة المصري اللبناني منتصر بيوضي، في الفيلم كلام في السياسية عن معاهدة كامب ديفيد وتأثيرها على مصر بعد 48 عاما، وتأثيرها على الزراعة والاقتصاد المصري، أيضا حرب الخليج، التفتت العربي بعد غزو الكويت، ثورة يناير وتأثيرها على المجتمع، اخطاء الذين قاموا بالثورة، كل هذه المحاور التي ناقشها ضيوف الفيلم ربما أثروا على قرارا موظف الرقابة. 

أخيرا كلا الفيلمين القاهرة منور بأهلها للمخرج المتفرد يوسف شاهين، وهرتلة في القاهرة للمخرجة الكويتية فرح الهاشم هما قصيدتا حب لهذه المدينة صاحبة العبقرية في الاحتواء والمزج بين الجميع، المدينة التي لا تبقى على حال ثابت في أي الأوقات، قاهرة السطوح، وقاهرة الشارع، قاهرة وسط المدينة وحراسها ومبانيها، وقاهرة الأحياء الشعبية وحراسها المحبين لكل ما فيها، قاهرة صلاح الدين، محمد على، الخديو إسماعيل، وجمال عبد الناصر، قاهرة الماضي الجميل، والحاضر الصامد الصابر الذي يبحث عن شعاع الفجر الذي لابد قادم كما قال أحد ضيوف (فيلم هرتلة في القاهرة)  هرتلة قد تصبح قصيدة عشق للقاهرة.  

المصدر : الجزيرة مباشر نت 


تعليقات