علي أبو هميلة يكتب : في الجوار أحزان


هناك في الجنوب على أمتداد مصر وبينما يمضي نيلها العظيم إلى جنوب الوادي مذبحة أنسانية يقوم بها أشقاء من نفس البلد السودان، هذا البلد الذي ظل منذ عرفه التاريخ جزءا من مصر، وامتدادا لها ما يحدث فيها تمتد أثاره إلى شمال الوادي فالكيان واحد منذ أن تغيرت ملامح القبائل السوانية لتصبح دولة وعبر تاريخ طويل من الدولة الإسلامية منذ المماليك حتى الخلافة العثمانية كانت مصر والسودان دولة واحدة، ولذا فأن آلام السودان هي آلام في قلب مصر،  وضحايا السوادن في الفاشر بإقليم دار فور أو أي أقليم أخر هم ضحايانا شءنا ذلك أم ابينا. وفي الفاشر عشرات الآلاف من الضحايا، ومئات الآلاف من النازحين، وفي السودان 11 مليون نازح، و3 ملايين لأجيء هربوا من معركة عبثية منذ عدة سنوات، وكل هذه الآلام ترتد وجعا في قلب كل مصري يعرف معني السودان وعروبته وعلاقته بمصر، فاحترس من صوت التلفاز لأن بالجوار أحزان. 

لا زالت غزة تئن من آلام عامين وأكثر من الدماء، والدمار، والأحتراق على يد نازيي العصر الصهاينة، ولا زالت خروقات الجيش الصهيوني تخلف يوميا مئات من الشهداء والجرحي، وعشرات من المباني المدمرة، لم يتوقف نزيف الدم الفلسطيني منذ توقيع إتفاق الهدنة في شرم الشيخ، ولا زلنا نتجرع آلام 70 ألف شهيدا، 200 آلف جريحا، وعشرات الآلاف تحت الأنقاض منذ الثامن من أكتوبر 2023 حتى الآن، فالأحزان لن تتوقف بتوقف الحرب بل تزداد وجعا، وصرخات من القلب لمن عاش ويعيش فاقدا أحبابه، فتحسس صوت أفراحك ففي الجوار أحزان لا تتوقف. 

من الذاكرة البعيدة 

عشت سنوات طفولتي في قرية مصرية تعرف معنى أحزان الجار قريبا كان أو بعيدا، من العائلة أو من عائلة مجاورة لنا، لم يكن بالفرية مع بدايات السبعينات من القرن الماضي سوى عدد قليل من أجهزة الراديو توجد عند كبار القوم، وكانت القرية رغم تعدد عائلاتها ووجود صلات نسب أو عدم وجودها وحدة واحدة لا تنفصل في أفراحها، أما في الأحزان فكانت القرية تتلتئم لتصبح جسدا واحدا، فكان من الصعب أن تجد زيا ملونا ترتديه أحدى سيدات القرية، ومن المستحيل أن يرتفع صوت المذياع في بيت من بيوتها مهما بعد موقعه عن موقع أهل المصاب فقيدا أو مريضا حتى خاصة إذا كان مرضا عصيا عل التعافي، وفي أغلب الأحيان عندما يرحل رجل أو أمراءة كانت أجهزة الراديو تصمت أربعين يوما لأن في الجوار أحزان. 

في منتصف السبعينات بدأت أغلب القرى المصرية يدخل لها كهرباء السد العالي وتضاء بالكهرباء بعدما كانت تضاء منازل الفقراء بمشعل الجاز، ومنازل الأغنياء بالكلوب ذو الرتينة وهو أختراع كنا نتعجب له، ومع دخول الكهرباء دخل أيضا التلفاز لأغلب منازل القرية بعدما كان عدده محدودا لدى كبار القرى ويعمل ببطارية السيارات، وبدأت العادات والتقاليد تتغير مع دخول هذا الجهاز الساحر لنا، وبدأت معايير الأباء والأجداد في الأحزان والأفراح تختلف مع تمرد أجيال جديدة تأثرت بالتليفزيون على هذه التقاليد، ولكن ظلت  قرانا تحتفظ بعادة الحفاظ على مشاعر أهل الحزن الذين يصيبهم مصاب جلل حادث كبير أو وفاة، وكانت الأمهات تحرصن على تغطية التلفاز بقطعة قماش لمدة طويلة أربعين يوما، تقلصت بفعل تأثير التغيرات إلى أسبوعان ثم أسبوع واحد، ففي العادة كانت الأمهات والأباء حريصين على أن في الجوار أحزان. 

ملامح كبيرة على مدار سنوات مرت بدأت تتغير فأصبح تكاسل الأبناء والأحفاد عن المشاركات الوجدانية تتكرر فقد أصاب القوم قحط في الوجدان، وللأسف كان بفعل فاعل هو هذا الجهاز الذي أصبح في كل منزل وأختفت المشاركة مع العائلات النسب والمصاهرة، او عائلات الجوار، صارت رحلة مجاملة في أفراح، أو واجب عزاء في الأحزان لا يتعدى المشوار أو اللحظة، حتى صرنا الأن في القرن الحادي والعشرين لا تعرف أين منزل الفرح، وأين منازل الأحزان، ولم يعد أحد يقول لنا "احترس ففي الجوار أحزان" 

من حقك تفرح 

نعم الجميع من حقهم أن يعبروا عن فرحهم ولكن، هل تلاشت مشاعرنا حتى فقدنا أحساسنا بوجعنا الشخصي هروبا من الواقع ونصرخ بأعلى الصوت فرحا، مغنيين أو مصفقين دون مراعاة أحزان الجار، أو حتى أحزاننا الشخصية، هل صار صراخ الفرح هروبا من الآلام التي تسكن في وجداننا، هل التعبير الصارخ عن الفرح يعكس آلما أخر لا نستطيع التعبير عنه. 

أجل من حقك أن تفرح لكن، لتكن تلك الأفراح حقيقية لا مجرد أوراق مزيفة مثل الدموع المزيفة التي نكتبها على الصفحات، ولا نذرفها في الحقيقة، طبقات من الإخفاء تتراكم في قلوبنا فلم نعد نرى أين الفرح فيها، وأين الآلم والحزن، تحسست قلبي فلم أجد مكانا لفرح من كثرة طبقات الحزن، وأيقنت أن خناك تلالا من الغم أصابت قلبي عبر سنوات طويلة، في الأعوام الماضية تراكمت ما لا تستطيع أفراح عابرة أن تمحو تلك التلال من حزن الشهداء والجرحى، ومنازل مهدمة، لا نستطيع أن نحمو غياب أحباب، وغربة أيام لنداري هذا بصرخات أفراح مزيفة، ففي جواري أحزان، وفي قلبي أحزان، فتحسسوا أصواتكم الصارخة بفرح سواء كانت خقيقية أو مزيفة، تحسسوا ففي الجوار أحزان لا تذهب. 

من حقك أن تفرح وتصرخ في وجوهنا، وتتراقص في عيوننا بالعصى أو بدونها لكن، لتكن فراحك مراعية لمن ينتظر عائدا من بعيد، لمن ينتظر خروجا من جحيم الغياب، أفرح ولكن لا تخفي بفرحك آلامك ووجعك، أفرح ولكن لا تتهرب من مسؤولية أن هناك في السوادن ملايين من الأحزان الثقيلة وتلال من الدموع التي لا تنقضي، أفرح ولكن لا تتصور أن جبال الحزن والصبر في غزة قد انتهت، ولا تنسى أنه لا زال هناك تلال أخرى من هذا الحزن والآم تحت الأنقاض في كل ركن من أركان شمالك الشرقي وجنوبك الغربي، ففي الجوار أحزان ثقيلة على القلب، ولا تنسى أن تبحث في قلبك عن ركن لم تختفي منه مشاعر الإنسانية، احترس فأن الضحك يميت القلب. 

المصدر : الجزيرة مباشر نت 

تعليقات