على قدر اتساع التيار الإسلامي في مصر بحيث يمثل الشريحة الأكبر عددا والأكثر تنظميا إلا أن التيار وقد جاءته فرصة ذهبية بعد ثورة يناير 2011 ليشكل حزبا قويا ليوحد فيه التيار بكافة فصائله إلا أنه لم يحدث رغم فوزه بالانتخابات البرلمانية والرئاسية حينذاك، وكانت تلك الفرصة قد جاءت للتيار القومي الناصري وهو التيار الأكثر شعبية والمنافس الأكبر للتيار الإسلامي في أعقاب وفاة جمال عبد الناصر، وحين بدأ الرئيس المصري أنور السادات مسيرة الأنفتاح، وكذلك بعد توقيع اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني، فرعم وجود القاعدة الجماهيرية لكلا التيارين إلا أنهم لم يستطعا تشكيل حزبا قويا يقود تغييرا في مصر.
الحزب الناصري الذي أصبح أحزابا
دب الخلاف بين اليساريين الشيوعيين، والناصريين في حزب التجمع التقدمي الوحدوي الذي أنشأ عقد قرار تشكيل الأحزاب في 1977، وبدأ الناصريون يعتقدون أن التجمع ليس حزبهم فالخلافات الفكرية والعقائدية بينهم متعدده، ومن هنا بدأ التحرك الناصري لإنشاء حزبا يمثلهم ويمثل مبادئهم وقيمهم، وتم إنشاء الحزب الاشتراكي الناصري تحت قيادة فريد عبد الكريم أحد اهم الكوادر الناصرية في الستينات والسبعينات، وضم الحزب كعادة الأحزاب المصرية كل أبناء التيار الناصري قبل أن تفرقهم الأهواء، والتدخلات الحكومية، والخلافات حول السلطة والزعامة.
استمر التجمع التقدمي الوحدوي في الساحة المصرية متعافيا قليلا بعد خروح الناصريين، وفي ظل قيادة محي الدين حتى غيابه في 2018، وكان في أوخر سنوات عمره قد ترك قيادة الحزب للمفكر اليساري رفعت السعيد الذي لم يكن سوى ظل لمحيي الدين، وتحت قيادته فقد الحزب الكثير من أعضائه وجماهيره خاصة بعد علاقته الغريبة مع النظام في عصر مبارك، وما بعد ثورة يناير 2011، فبهت الحزب وتوارى كثيرا حزبا كان يأمل المصريون فيه كثيرا.
ما حدث للحزب الاشتراكي العربي الناصري مشابه تماما لما حدث في حزب التجمع فمن تيار واسع بقدر الوطن العربي مهدت له التجربة الناصرية الأرضية في مصر وغيرها من الأقطار العربية إلى حزبين قبل التأسيس الرسمي، وبعد أن وافقت لجنة الأحزاب على قيام الحزب الديمقراطي العربي الناصري في عام 1992 تحت قيادة ضياء الدين داود، قد انقسم التيار إلى حزبين الاشتراكي تحت التأسيس، والديمقراطي المنشأ الجديد، وفي تأسيس الحزب الجديد كان هناك أكثر من 25 ألف كادر في مؤتمره الأول، وكان التصور في ظل البداية أن يكون حزبا جماهيريا مؤثرا وقويا.
ولكن ما أن عقد مؤتمره الأول إلا وظهرت الخلافات بين تلك الكوادر، معركة بين جيل الدولة الناصرية ممثلة في ضاء الدين داود، ومحمد فائق وزير الإعلام الناصري، محمد فوزي وزير الحربية، وغيرهم وجيل الشباب، وأنقسم جيل الشباب، ثم أنقسم المنقسم، ثم تدخلت أيادي الأمن لتمكن من الحزب من هم أبعد كثيرا عن قيم ومبادئ الناصرية، وتعددت الأحزاب بفعل التطلع للسلطة والنفوذ، وصراع الزعماء، فمن السخرية أننا جميعا كناصريين نعتقد في أنفسنا أننا عبد الناصر، أصبح لدينا أربعة أحزاب أو أكثر ترفع راية الناصرية، وتلاشت تجربة حزبية كان من الممكن في ظل تيارها الواسع أن تصبح رقما صعبا في الحياة الحزبية المصرية.
أحزاب بعد يناير
أعقاب ثورة يناير ظهرت كيانات حزبية كان من الممكن أن تكون أحزابا كبرى وتستمر، ولكن يبدو أن مصر ليس مكتوب لها أحزاب تعيش، وبعيدا عن انفجار الاحزاب الذي حدث والتي شكلتها مجموعات صغيرة وغير مرئية وصار كما يقول المصريون "العدد في الليمون" إلا أنه كانت هناك تجارب كان الأمل فيها كبيرا أولها كان حزب الدستور تحت قيادة مؤسسه محمد البرادعي رئيس الهيئة الدولية للطاقة النووية.
كانت عودة البرادعي إلى مصر في عام 2010 وتكوينه الجمعية الوطنية للتغيير عودة قوية، وبعد الثورة أسس البرادعي حزب الدستور الذي كان جامعا لكل شباب ثورة يناير وشهد انضمام عدد كبير من النخبة المصرية، ولكن الحزب لم يعمر طويلا بالأحداث التي جاءت بعد يناير حتى خروج البرادعي من مصر أعقاب ما حدث في يوليو 2013، ليعاني الحزب من التفتت والانقسام، وخروج أغلب كوادره، ونخبته، ويموت الحزب قبل أن يولد، وفي نفس التوقيت ظهر أيضا مصر القوية الذي شكله عبد المنعم أبو الفتوح المرشح الرئاسي في أول انتخابات بعد ثورة يناير، وكانت حملة أبو الفتوح تشكل القاعدة الرئيسة للحزب، و بدا الحزب يمثل تيار الإسلام المستنير والمرتبط بالتجربة المصرية وضم الحزب الكثيرين من أبناء التيار الإسلامي، واللبيراليين، وبعض القريبين من اليسار، ولكن التجربة لم تكتمل.
الكتلة الصعبة في حسبة الأحزاب المصرية بعد يناير كانت الكتلة الإسلامية ممثلة في حزب الحرية والعدالة، الوسط الذي أسسه أبو العلا ماضي، وعصام سلطان، وحزب النور، والبناء والتنمية الناتج عن الجماعة الإسلامية بقيادة طارق الزمر، وكان الحرية والعدالة حزب جماعة الأخوان المسلمين الجماعة الأكثر تنظيما، والأقدم بين التيارات المصرية، وكان المصريون البسطاء يأملون كثيرا فيها بعد يناير، وصوت المصريون للجماعة في الانتخابات البرلمانية 2012، وحصدت الجماعة الأغلبية مما جعلها السلطة التشريعية وهذا جعلها أقرب للمواطن العادي الذي ينحاز دائما إلى من بيده السلطة.
بدا أن حزب الحرية والعدالة قد يكون بديلا شعبيا بقاعدة تنظيمية كبيرة، ولكن الأخوان المسلمين باعتقادهم أنهم كانوا الثورة وأصحابها بدأوا يفقدون هذا الزخم وقد ظهر ذلك في انتخابات الرئاسة رغم فوز الأخوان بها، وهكذا تجمعت السلطة في يد الأخوان والحزب، ولكن لم يستمر هذا طويلا فقد جاءت أحداث ديسمبر 2012 ثم أحداث يونيو، ويوليو 2013 لتنهي حزب الحرية والعدالة الذي لم يتبق منه إلا الأعضاء التنظميين للجماعة فقد أنفض من حوله كل الذي كانوا دائما مع السلطة، وتعرضت الجماعة لضربات أمنية ثقيلة، ثم كانت تجربة المهجر التي أثرت كثيرا في الجماعة والحزب الذي لم يعد له وجود مثله مثل التيارات المصرية الكبرى.
تجربة أخرى بعد يناير مثلها كالتيار الشعبي الذي شكله حمدين صباحي في سبتمبر 2012 وشهد مؤتمره الأول في ميدان عابدين عددا كبيرا من الكوادر الشبابية الناصرية، والتي على يسار التيار الناصري، وكان حمدين بعد انتخابات 2012 أملا كبيرا خاصة بعد الانقسام الذي أحدثته النتائج في المصريين، وبيما كان الأمل في استمرار الانتخابات الديمقراطية المصرية كان حمدين يمثل بديلا مصريا، لذا جاء التيار الشعبي جامعا لكل الرافضين للحكم العسكري والأخوان، ولم تستمر الحالة طويلا لانه تجمع ضم أيضا الساعيين للقرب من السلطة، أيضا بمجرد ظهور مرشح للدول العتيقة خاصة من المجلس العسكري، أنتهى التيار الشعبي لأنه ضم الكثيرين من أبناء الدولة العميقة والانتهازيين، بينما عاد الناصريون فيه إلى حزب الكرامة الذي منح الشرعية بعد يناير، معضلة كبيرة واجههتها الأحزاب المصرية الجماهيرية، فقد تهاوت وأندثرت في التاريخ، ولم يتبق إلا أحزاب هامشية تفتقد الأيولوجية، والجماهير، ولم تجد أحزاب الأيدلوجية كوادر تدافع عنها حين تعرضت للانهيار.

تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق