يحتل فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" (إنتاج 1979) مكانًا بالغ الخصوصية في تاريخ السينما السياسية المصرية. ليس لأنه مجرد عمل فني قوي، بل لأنه وُلد في لحظة سياسية محتقنة، لحظة كان فيها الرئيس أنور السادات مشغولًا بإعادة رسم صورة الدولة، وتفكيك الإرث الناصري، وتغيير ذاكرة المصريين جذريًا.
أصبح الفيلم لاحقًا واحدًا من أهم أدوات تشكيل الوعي الجمعي حول صورة السجون في عهد عبد الناصر، رغم أن أساسه مجرد حكاية صحفية بلا مصدر مستقل، كتبها صحفي اشتهر بازدواجية مواقفه وتحولات ولائه.
هذا الفيلم – كما سنرى – لم يكن عملًا بريئًا، بل جزءًا من هندسة سياسية، استُخدمت فيها السينما مثل مطرقة ثقيلة لإعادة كتابة التاريخ.
يمثل مؤلف الفيلم، جلال الدين الحمامصي، نموذجًا صارخًا للصحفي الذي انتقل من أقصى الوفدية إلى خدمة القصر الملكي، ثم أصبح من داعمي ثورة يوليو، ثم عاد ليهاجم عبد الناصر بعد رحيله. مسيرته السياسية أشبه بموجات مدّ وجزر:
البدايات الوفدية (1930–1940)
بدأ الحمامصي في صفوف حزب الوفد، الحزب الأكبر نفوذًا في الحياة السياسية المصرية قبل ثورة يوليو.
الانشقاق الكبير (1942)
في صراع مكرم عبيد مع مصطفى النحاس باشا، انشق الحمامصي مع مجموعة "الكتلة الوفدية"، وتحول إلى خصم ضارٍ للوفد.
"الكتاب الأسود" (1943)
بتكليف رسمي من القصر الملكي، كتب الحمامصي "الكتاب الأسود" الذي فضح فيه فساد قيادات الوفد. رد الوفد كان عنيفًا: أصدر النحاس باشا أمرًا باعتقاله في معتقل الزيتون – 1943.
السجن وصداقة السادات (1943)
في المعتقل، يتعرّف على أنور السادات، الضابط المطرود من الجيش بتهمة الاتصال بالألمان خلال الحرب العالمية الثانية. تنشأ صداقة بين الرجلين ستعود لاحقًا لتؤثر على توجهات الحمامصي بعد حرب 1973.
مع ثورة يوليو (1952–1970)
بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، كان الحمامصي قريبًا من الرئيس عبد الناصر. في عام 1956 شارك في تأسيس وكالة أنباء الشرق الأوسط. وفي 10 يونيو 1967، كتب مقالته الشهيرة "ابقَ معنا" ردًا على خطاب تنحي جمال عبد الناصر، مدافعًا عنه بشكل يكاد يصل إلى التقديس.
هذه التحولات السياسية لم تكن نتيجة مراجعات فكرية، بل تبدو – بكل وضوح – انعكاسًا لرغبة مستمرة في الاقتراب من السلطة أينما كانت، وتهيئة الخطاب بحسب مزاج الحاكم.
بعد عبور أكتوبر 1973، بدأ السادات مرحلة جديدة هدفها:
بناء شرعية مختلفة تمامًا عن شرعية عبد الناصر.
تمهيد الطريق للانفتاح الاقتصادي والتحالف مع الأمريكان.
تحميل الناصرية مسؤولية الهزائم والأزمات.
نشر سردية سوداوية عن الحقبة السابقة.
هذه المرحلة لها تواريخ واضحة:
الإعلان العلني أمام كيسنجر (7 نوفمبر 1973): في أول لقاء بين السادات وكيسنجر بالقاهرة، قال السادات لكيسنجر نصًا إنه سيقوم بـ "تصفية ميراث جمال عبد الناصر وسياساته".
لم تكن هذه جملة عابرة… بل كانت خطة حكم.
طرد هيكل وعودة الأخوين أمين (1974): إزاحة محمد حسنين هيكل من الأهرام، واستدعاء علي أمين من لندن، وإصدار عفو صحي عن مصطفى أمين رغم إدانته بالتجسس لحساب المخابرات الأمريكية قبل 11 عامًا (1965).
أحمد كامل، رئيس جهاز المخابرات العامة في بداية عهد السادات، وكان صديقًا مقربًا لمصطفى أمين، أكد في مذكراته أن قضية مصطفى أمين: "كانت قضية تجسس مكتملة الأركان".
إطلاق الاتهامات الكبرى (يناير 1976): أصدر الحمامصي كتاب "حوار وراء الأسوار"، وادعى فيه أن عبد الناصر استولى على 15 مليون دولار منحة من الملك سعود لمصر بعد حرب 1967. هذا الادعاء يوحي بجهل كامل بطبيعة السلطة وقتها، إذ كان عبد الناصر لا يحتاج إلى "سرقة" أموال بينما خزائن الدولة كلها تحت يده.
تحقيق مجلس الشعب: بعد ضجة الاتهام، فُتح تحقيق رسمي. جميع المسؤولين الاقتصاديين في عهدي السادات وعبد الناصر نفوا القصة.
خلص التحقيق إلى براءة كاملة لعبد الناصر، لكن السادات قرر وضع التقرير في "أمانة المجلس" دون نشر، تاركًا التشويه حيًا في المجال العام.
الهدف النهائي (1974–1981)
كان السادات يدير عملية إعادة كتابة التاريخ عبر:
إحلال رواية سوداء عن عهد عبد الناصر.
تقديم نفسه باعتباره "منقذًا" من مرحلة كارثية.
استخدام السينما – وخاصة من 1974 إلى 1981 – كرصاصة ناعمة لتثبيت السردية الجديدة.
القصة التي بُني عليها فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" مأخوذة من كتاب حوار وراء الأسوار للحمامصي ( صفحات 124–127). ما يلفت النظر أن القصة:
بلا تاريخ محدد للواقعة.
بلا اسمي الشخصيتين.
بلا شهادة واحدة أخرى.
بلا وثيقة واحدة.
وتدور حول:
مواطنين ركبوا أتوبيس نقل عام (سنة غير محددة، لكن الحمامصي يربطها باعتقالات 1965).
مشادة مع الكمسري بسبب "الفكة".
القبض عليهما بتهمة التعدي على الكمسري وتعطيل مصالح المواطنين.
الصدفة القاتلة: نقلهما ضمن حملة اعتقال واسعة ضد الإخوان.
التحقيق معهما باعتبارهما من التنظيم الإخواني.
عند كل استجواب يكرران جملتهما : "إحنا بتوع الأتوبيس!"
السجن لسنوات قبل اكتشاف الخطأ والإفراج عنهما.
هذه الحكاية – التي لا تحمل أي دليل – تحولت إلى فيلم سياسي.
الفيلم خرج للنور في عام 1979، أي في ذروة هجوم السادات على الناصرية، وبعد:
زيارة القدس المحتلة 1977
اتفاقية كامب ديفيد 1978
توقيع معاهدة السلام 1979
وبالتالي كانت الدولة كلها في حالة إعادة تعريف تاريخها وهويتها.
الفيلم اعتمد على التضخيم والمبالغة المتعمدة، واستخدام الكوميديا السوداء لتكريس صورة معينة عن دولة عبد الناصر:
الأجهزة الأمنية في هيئة وحش لا يرحم: لا قانون، لا قواعد، لا عقل. فقط معتقلات ضخمة، غرف تعذيب، كلاب، كرباج، وجهل مطبق.
المجتمع كله شبكة مخبرين: كل شخص يراقب جاره. كل مؤسسة تتجسس على موظفيها.
الهجوم على مجانية التعليم وسياسة التوظيف: شخصية بطل الفيلم جابر عبد ربه – الذي أصبح جامعيًا ثم موظفًا حكوميًا بسبب مجانية التعليم وقرار الدولة بتعيين جميع الخريجين – يعبر عن ضيقه وسخطه من توظيفه في غير مجال تخصصه.
النهاية: القصة الأصلية تنتهي بالإفراج بعد اكتشاف الخطأ. أما الفيلم فيوصل المشهد إلى ذروته: إبادة المعتقل كله بالمدافع الرشاشة، ثم ربط المشهد بهزيمة يونيو 1967، وكأن الفيلم يقول: "هؤلاء هم من قادوا مصر إلى الهزيمة ولابد أن يكون مصيرهم الفشل والقتل."
إحنا بتوع الأتوبيس ليس وثيقة، ليس شهادة، بل رؤية سينمائية عن مشروع سياسي امتد من 1974 إلى 1981، هدفه اغتيال عبد الناصر معنويًا، وبناء ذاكرة جمعية جديدة تخدم النظام الجديد.
اعتمد على:
قصة بلا سند
مؤلف له تاريخ طويل من التلون السياسي
خيال درامي خصب
سياق سياسي مجهز لتلقي أي رواية سوداوية عن الحقبة السابقة
لم يكن الفيلم صدفة أو حالة منفصلة في تاريخ السينما المصرية، بل حلقة ضمن سلسلة بدأت قبل ظهوره:
الكرنك (1975)
وراء الشمس (1978)
إحنا بتوع الأتوبيس (1979)
هذه الأفلام تشترك في بنية واحدة: شخصيات تُسحق بلا منطق، أقبية تحكم أكثر من المؤسسات، دولة بلا ملامح، وجلاد يتجاوز الزمن ليصبح رمزًا للنظام الذي يُراد تشويهه.
أفلام خرجت من قلب لحظة سياسية أراد فيها السادات أن يُلقّن الناس إدانة الماضي كي يبتلعوا الحاضر بلا مقاومة. لم تكن تحكي ما جرى، بل تعيد هندسة الذاكرة ذاتها: تشويه مُحكم، صورة مُختارة بعناية، وتاريخ يُقطع ويُعاد لصقه على مقاس الراوي الجديد. إنها سينما اشتغلت كأداة لتزييف الوعي، لا لتوثيق الحقيقة.

تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق